الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الفن التشكيلي!

حسن حميد 

سرّتني الأمسية التي جمعتنا، شعراء وكتابّاً وأدباء وفنانين، في بيت فنان تشكيلي صديق، بمناسبة إنجازه لوحةً كبيرةً، ضمّنها أهم الرموز التاريخية التي تخصّ هويتنا، وأهم المراحل العمرانية التي ساهرها الأجداد من زراعة القمح إلى زراعة الورود، ومن أنسنة الأنهار والبحار، إلى بناء النواعير والجسور والقناطر، ومن صناعة الفخار والسجاجيد، إلى صناعة الزجاج والكتب، ومن أجواء عوالم القرية إلى أجواء عالم المدينة. والحقّ أنّ اللوحة، وكما بدت لنا، بهّارة وجميلة، وحمولتها الثقافية والتاريخية ثقيلة بإبداعها ورؤيتها، لقد بدت لنا أشبه بمدوّنة جمالية مشى بها البصر طويلاً وطاف بين الألوان والتواريخ والرموز حتى اختار منها ما يليق بالعمران والمباهاة به.

صديقنا الفنان، كان طوال السهرة أشبه بالمرآة التي راحت تبدي لنا هموم الفنان التشكيلي ومعاناته من جهة، وغاياته وأحلامه من جهة أخرى. لقد انهمرت عليه أسئلتنا لمعرفة أسباب اختياره لهذه الرموز والألوان، وطريقة بسطها على هذا النحو الجمالي الذي حاكى عالم الأسطورة والميثولوجيا، وعالم البراري والغابات.

وقد أجاب إجابات سارّة أكّدت لنا أنّ اللوحة الحقيقية الممتلئة شأنها شأن الكتاب الوافي بأغراضه ورؤياه، وأنّ إنجاز لوحة بهذه الأهمية والعمق والإحاطة شأنه شأن عمل موسيقيّ هائل، أو رواية محتشدة بالمعرفة والجمال والتقنيات والأصوات ذات النبر المختلف، لا بل إنّ الأسرار داخل هذه اللوحة وهي كثيرة، وبعضها يعانق بعضها الآخر، استدعت منا الأسئلة للكشف عن غاياتها ومراميها، وقد صارحنا صديقنا الفنان التشكيلي بأنّ الاعتقاد الذي قرّ في أذهاننا هو أنّ اللوحة مهما اعتمدت الغموض أسلوباً، والتواري والتخفي من أجل تعطيش المعاني موضوعاً، تظلّ مكشوفة واضحة، فقال: إنّ اللوحة تشبه الأفلام، والروايات، والمسرحيات حين يسعى العاملون عليها إلى لعبة الإخفاء والتجلّي، على الرغم من أنّ اللوحة هي سطح واحد جليّ أمام النظر، ولكن لابدّ من أن يعمل تجانس اللوحة الداخلي على توليد الدهشة، فرسم لوحة تشكيلية جديدة بالمعنى والمبنى والغنى هو عمل شاقّ جداً، ورؤية اللوحة، أو لنقل قراءتها، تحتاج إلى تعب جميل يوازي التعب الجميل الذي رافق بناء اللوحة وتتميمها.

وسألنا الفنان التشكيلي إن كانت اللوحة تحتاج، في البدء، إلى تخطيط أو قراءات، فقال جازماً: إنّ اللوحة التي لا تنجزها الأفكار، والقراءات، والموهبة ليست بلوحة، وأشار إلى اللوحة كي نرى مملكة النبات وهي تحرس قاع النهر، لأنه ما كان بذاكرته من شيء يرسو في قاع السواقي والأنهار سوى الحصى، وإن معرفته بسيرة جلجامش هي التي جعلته يزرع قاع النهر بالنباتات، وأنّ نبتة واحدة من هذه النباتات هي التي كان يبحث عنها جلجامش طلباً للخلود، وإن حروف الأبجدية التي تشكّل سقف اللوحة هي التي أوجدت ما تحتها من كتب تراصفت وتآخت وامتدت إلى جوار بعضها بعضاً كما لو أنها حقل معرفة، فالحروف في اللوحة ترمز للمطر، والكتب ترمز للزرع!. وهذه القناطر الجسور والعمائر الأخرى هي كتاب الحضارة.

بلى، كنّا طوال الأمسية نطوف برموز اللوحة من جهة وبعوالم الألوان من جهة أخرى، لنعرف أكثر عن الفن التشكيلي، هذا الفن السّاحر الذي مازال بينه وبين النقد الجمالي مسافة بعيدة لم تقطع بعد، ومازال بينه وبين الذائقة الجمالية التي نسعى إليها مسافة بعيدة لم تملأ بعد أيضاً، صحيح أنّ الفن التشكيلي تكوّن ونما، وتطوّر ليكون صدى لذائقة جمالية تمتّعت بها النخب الاجتماعية، ولكن الصحيح الآن، أنّ العلوم تقدّمت، والمعارف اتسعت، والذوق العام اكتسب ثقافة بصرية مهمّة، فبات لا بدّ من مجتبى لهذا التقدم الثقافي كي تصير اللوحة التشكيلية حالاً تعبيرية عن آفاق جماليات المجتمع، والعقول والحذق!.

وأيّاً كانت ذرا مسرتنا بلوحة صديقنا الفنان التشكيلي، فإننا تحسّرنا لغياب النقد الجمالي بسبب غياب الصّداقات ما بين الرّسام والكاتب، والموسيقي، والشاعر، والناقد، لأن غيابه حارق وموجع، ولهذا قلنا: لابدّ من توطيد مداميك هذه الصداقة كي تصير الثقافة والفنون اجتماعاً لكلّ جميل معافى!.

Hasanhamid55@yahoo.com