ثقافةصحيفة البعث

ماذا بين سحريات الخط العربي والفنان الحلبي؟

حلب – غالية خوجة 

يتماوجُ الحرف العربي تشكيلات فنية مختلفة تتسمُ بروحها المشرقية النابعة من أعماق الفنان الذي يخطّها رسومات ولوحات ومنحوتات، تتضمن نصوصها حكايات ترويها الخطوط وألوانها وتشكيلاتها بين انحناءات الفراغ وتكوينات الحرف وأنواعه المختلفة بين المسند والحجازي والكوفي والنسخ والثلث والديواني والرقعة والفارسي والحر والإجازة أو التوقيع – العراق، الأندلسي، المغربي، الحميري، الريحاني، الجلي، السنبلي.

فلسفة اللغة الفنية

وبين فنيات الرسم والتصميم والتشكيل والزخرفة والنقش والعمارة والفراغ والواقعي والمتخيّل والأنسنة والطبيعة والروح العميقة الشفيفة، كون لغتنا العربية مقدّسة، بين هذه البينيّات المتناغمة وأكثر، تكمن جماليات الحرف العربي وجُمله وطريقة كتابته، إضافة لجماليات اللغة العربية الصائتة والصامتة والدلالية والنسقية والإعرابية والنحوية والشكْلية والتشكيلية والمعجمية والفلسفية والفقهية والتأويلية والرمزية والتجريدية، والتي تعتبر اللغة الخامسة عالمياً، لكنها الأقدم تأريخياً، والأشمل بعدد المفردات وتنوع معاني المفردة الواحدة، وخصّصت لها اليونسكو يوماً عالمياً للاحتفال بحضورها وناطقيها هو يوم 18 ديسمبر- كانون الأول من كلّ عام.

واحتفالاً بهذه الروح الحروفية، أقام اتحاد الخطاطين بحلب- الجمعية الحرفية للخطاطين- بالتشاركية مع نقابة الفنون الجميلة المعرض السنوي الأول للخط العربي ليكون تحية للخطاط المرحوم مصطفى كمال مولوي الحاضرة أعماله من خلال لوحتين تظهران جماليات الخط من خلال كتلته التناظرية كبعد يعتمد على المرآتية، مما يجعل جملة “محمد رسول الله” تبدو مثل الثريا المؤلفة من تشكيلات أخرى، فتبدو طائراً أيضاً وأمواجاً من الماء في الفراغ وتعلو باستقامتها ألف لفظ الجلالة لتكون البوصلة والمرساة والشراع.

وعن المعرض قال التشكيلي إبراهيم داود: يضمّ تجربة فنانين محترفين ولوحاتهم ذات قواعد وتكوين جمالي وطمأنينة نفسية في آن معاً.

وعبّر الفنان عبيدة قدسي عن سعادته قائلاً: يشكّل خطوة مهمّة ويجمع مختارات من أعمال الفنانين بزخم نوعي واحترافية عالية ذات إحساس رهيف بالكلاسيكية وعمقها التأريخي والحداثة التشكيلية.

حياة بين الرسم والمسرح والتصميم 

وأخبرنا الفنان محمد زكي مولوي عن والده مصطفى كمال مولوي بأنه ورث فن الخط عن والده، وتتلمذ أيضاً على يد أخيه محمد علي ويد الخطاط حسين حسني، كما أنه كان يتردّد على خطاط بلاد الشام بدوي الديراني في دمشق، وكيف كانت لوحاته في الجامع الأموي الكبير بحلب، ثم انتقلت إلى المدرسة الحلوية لتصبح متحفاً دائماً للخط العربي، لكن الحرب الظالمة دمّرت الأحلام فضاعت الأعمال.

وتابع: عمل أبي في سلك التعليم 28 عاماً، كما عمل بالصحف والمجلات كخطاط ومخرج فني، ومنها برق الشمال، السنابل، الحوادث، وكان من رواد المسرح كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، ومن مسرحياته “الدجال”، و”نهاية فنان” التي رصد فيها حياة التشكيلي النحات فتحي محمد، كما كان من السباقين لإقامة الجمعية الحرفية للخطاطين بحلب، وكان أمين سرها، رحمه الله توفي في عمر 55، وكان هناك معرض لذكراه في حلب عام 1992، وآخر في دمشق عام 1993، وها أنا أشارك في دورته بثلاث لوحات، إحداها استخدمت فيها الحجريات الزجاجية الأقرب للزجاج المعشّق، لتمنح حالة متناغمة بين تكوينات الحداثة والمعاصرة، وتعاملت مع الضغط بالمعادن وكتبتها بالخط السنبلي.

قطرة ولوتس ومثل سومري 

ويبدو الفنان محمد زكي مولوي متأثراً بالخطوط التي أحبها والده أكثر، ومنها الفارسي والديواني والنسخ والرقعة، وتبدو إحدى لوحاته بتشكيلات توحي بالمطر والماء وقوس قزح المستمد من دلالات الآية الكريمة “وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به”، إضافة إلى شكل اللوحة الكتلي بمعدنها الفضي الموحي بنصف قطرة مطر معلقة في السماء بينما نصفها الآخر تدحرج إلى باطن الأرض، وتُظهر لوحته الأخرى جملاً مكتوبة بعدة خطوط، مركزها زهرة “اللوتس” وحركتها المولوية، بينما تبدو تويجاتها كدائرة زمنية غير مغلقة، ويظهر في قاعدة اللوحة مثَلٌ سومري قديم كتبه بالخط الجلي يقول: “الدولة الدائمة التسليح لا يطرق العدو بابها”.

طبيعة وكائنات وأمكنة حروفية 

وبالإضافة إلى الفنان المحتفى به، تشارك أعمال 3 فنانين رحمهم الله أيضاً: خالد السم، رياض ميدو، جميل بوشي المولوي، إلى جانب أعمال 21 فناناً حلبياً معاصراً، تنوعت تشكيلية أعمالهم بين عناصر الطبيعة والكائنات والأمكنة مثل لوحة الفنان أسامة رضوان المتشكّلة رأس حصان عربي أصيل، ولوحة الفنان وضاح أصيل المتشكّلة طائراً محلقاً في المسافات البعيدة، ولوحة الفنان محمد أميم السم المرسومة كرمز لاتجاه الصلاة وقبلتها المشرفة، ولوحة الفنان عبد الغني أبو صالح “حلب” الموزاييكية الخطية بتنقيطها اللوني المتشكل من 3 أحرف هي الحاء واللام والباء، والتي رسمت عمرانية حلب بتجريدية لونية بين تدرجات الأزرق والفضي والأحمر والأسود والأبيض من خلال تكرار كلمة حلب 12 مرة بأفق اللوحة وكأنها دلالة على أشهر السنة أو سنوات الحرب الظلامية، وكلمة حلب المكررة 7 مرات عمودياً ضمن موسيقا حروفية، لتتناثر إشعاعات اسم المدينة نوراً يمحو الظلام وتشرق نقطة الباء شمساً جديدة.

دلالة مشعة وخوارزمية شطرنجية 

كما اعتمد الفنان أحمد قاسم على لونين متناقضين من خلال لوحتيه، الأولى مضاءة بدعاء قرآني لمُنزلٍ مبارك في السماء، تشعّ مفرداتها المحلقة للأعلى، والثانية بإيقاع خلفي أقرب إلى لون الصلصال الإنساني الشاكر بآية قرآنية مشعّة الحروفية: “لئن شكرتم لأزيدنكم”.

وبدوره، أكد الفنان أحمد قطاع على سحر الخط الكوفي الشطرنجي الهندسي الذي اعتمد عليه في لوحتيه، وأولاهما كتابته لأسماء الله الحسنى موظفاً “الخيش” الطبيعي، وثانيتهما لوحة هندسية للكرة الأرضية بأبعاد متشاكلة نافرة بين الفراغي والرمزي والدوران الكوني من خلال آية تذكّر الإنسان بأصله: “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى”.