نوافذ 72
عبد الكريم النّاعم
أعجبتْني جملة قرأتها في بعض كتب التراث، خلاصتها تقول ما معناه إنّ الله يديم دولة الكفر بعدلها، ويهدم دولة الإيمان بظلمها، وبلغ من إعجابي أنني استعرتها لبعض مقالاتي بهذا الشأن، واستغربتُ أن يُنسَب هذا القول، أو أن يصدر عن واحد ممّن عُرفوا بالتعصّب المذهبي، والإفتاء بكفر كلّ مَن لا يقول بمقالته، حتى لكأنّ مقولته تنزيل ربّاني، ولاسيّما أنّه أسّس لمن جاء بعده ممّن استحلّوا دماء المخالفين، وسبي نسائهم، واستعباد أبنائهم، الأمر الذي شكّل أساساً فكريّاً لاحتلال الأتراك العثمانيين الذي استمر أربعمئة سنة، حفلت بالظلم، والنهب، والتجهيل، بيد أنّ استغرابي زال حين قرأت الجملة التالية للسيد الرسول العربي، صلوات الله عليه وآله، تقول: “قد يدوم الحكم على الشرك، ولكنّه لا يدوم على الظلم”، أوردها المستشار محمد سعيد العشماوي، في كتابه “الإسلام السياسي”، فعلمتُ أنّ ذلك المتعصّب قد استقى معناه من قول رسول الرحمة، فحوّره، وغطّى عليه مَن تابَعه.
إنّ الأقوال العظيمة، الإنسانيّة، التي تصلح لكلّ زمان ومكان لا يمكن أن تصدر إلاّ عن روح عظيمة خالية من التعصّب الأعمى، ومن الأحقاد المُدانة، ومن ضيق الأفق.
*****
في قاعة الامتحانات، في جامعة ما من جامعات العالم، دخل الطلاّب القاعة، وكانت تشرفُ عليهم دكتورة، وبعد أن استقرّوا ووُزّعت عليهم أسئلة الامتحان، جاء عميد تلك الكليّة، وأدخل طالبة وطالباً إلى القاعة، وأشار إلى الدكتورة المكلَّفة بالمراقبة أن تغضّ النظر عنهما إذا نقلا عن بعض، وغادر، وقعت الدكتورة في حيرة، كيف تسمح لهما بذلك، وتمنعه عن بقيّة الطلاّب، فأغلقت باب القاعة وأشارت للجميع أن ينقلوا.
في المساء حدّثت الدكتورة المذكورة صديقتها بالحادثة، فاستغربت ذلك صديقتها، وقالت لها: “كيف تجرّأت على ذلك”؟!! فقالت: “لو لم أفعل ذلك لَما استطعت النّوم..”.
*****
جاء صديقي لزيارتي، وكان عائداً من التعزية بفقيد نعرفه، وبعد صمت قصير قال: “يا أخي لحضور الموت رهبة”، قلت: “لا شكّ”، قال هل تظنّ أن هناك مَن لا يفكّر بالموت”؟ قلت: “نعم، وإنْ على قلّة”، قال: “ما أظنّ”، قلت اسمع الحادثة التالية، كنتُ مديراً لمدرسة ابتدائية، وفي حصّة فراغ جلس أحد المعلّمين في الإدارة وظللتُ مشغولاً بأوراقي، فقال: “ارتح قليلاً يا رجل”، فتركتُ ما بيدي وانصرفتُ إليه، وجرّنا الحديث، حتى وصلنا إلى فترة النّوم، فقال لي: “متى تنام يوميّاً”؟ قلت: “ليس قبل الثانية صباحاً”، فأبدى استغرابه، فسألته “متى تنام”؟. فقال: “في الثامنة مساء وأظلّ حتى الصباح على جانب واحد”، فأبديتُ استغرابي، فقال: “لماذا تسهر”؟ قلت: “ليس عن قصد، أستلقي لأنام فتداهمني عشرات الأفكار”، فأبدى دهشته وقال: “أفكار مثل ماذا”؟ قلت: “هل فكّرتَ يوماً بالموت”؟ فنقز وقال: “بعيد الشرّ”، ومضى على ما ذكرتُ فترة فجاء في درس فراغ آخر، وجلس مُتعب الوجه والجسم، وهو صلب العود، معتدله، فسألت: “ما بك”؟ فقال “خربت بيتي، البارحة جئتُ لأنام، فتذكّرت كلامك عن الموت، وبين اليقظة والنّوم أحسستُ بالموت يحيط بي من كلّ مكان، يا رجل له وَحْفة مثل وحفة المطر، فرجوته متضرّعاً أن لا يقبض روحي قبل أن أتشهّد، ونهضتُ مرعوباً من الفراش ولم أستطع النّوم بعدها، خيفة من عودته.. خربت بيتي، الله لا يسامحك، هذا شيء ما كان يخطر لي على بال”. الحادثة السابقة تؤكّد أنّ ثمّة من لا يفكّر بالموت، وقد لا يخطر لهم على بال، وإنْ على نُدرة كما ذكرت، وهذا يدخل في باب الشاذّ الذي لا يُقاس عليه.
aaalnaem@gmail.com