سويداء القلب.. أخيراً وقعت الصدمة
رغم أن الهاربين من العدالة تمكّنوا، يوم الأحد الماضي، من اختطاف شارع أو شارعين من محافظة السويداء، إعلامياً، لبضع ساعات، إلا أن الحدث كان أشبه بعاصفة في فنجان، فسرعان ما عاد الهدوء إلى ساحة المشنقة، بعد أن أقدم المتورّطون على إضرام النار في أجزاء من مبنى المحافظة، وإحراق ملفات وأوراق رسمية كانت هناك.. لكن الأشدّ دلالة في مثل هذا السيناريو، الذي بات كلاسيكياً ومفضوحاً في افتعال الفوضى وترهيب الآمنين وتفجير الفتنة، هو أن الصدمة المطلوبة حدثت.. أخيراً، وإن عن غير قصد، وأنّ “مدّعي الكرامة” هؤلاء الذين يعملون، في حقيقتهم، كطابور خامس لقوات الاحتلال الأمريكية والاستخبارات البريطانية، وكـ”رفاق سلاح” للمرتزقة والعملاء المأجورين في “قسد”، إنما انخرطوا في احتجاجات كاذبة استغلت ظروفاً قاهرة لا تخفى على أحد، على أمل “تخريج”، و”عولمة”، مشكلة غير قابلة للحل في الأمد المنظور، وأن هؤلاء المهرّجين ليس لديهم ما يقولونه، مثلاً، عن الحصار الإجرامي الأطلسي المفروض على سورية، ولا عن “أزلام البنتاغون” من حزب العمال الكردستاني الذين يسرقون نفطهم وكهرباءهم وقمحهم من منطقة الجزيرة السورية لحساباتهم الشخصية، ولا عن بلد – يُفترض أنه بلدهم – هناك من يريد إرجاعه إلى القرون الوسطى بكل معنى الكلمة، وهناك من يريد تجويعه إلى حدّ الإذلال، ولكنه لا يستطيع ولن يستطيع أبداً.
لقد حدثت الصدمة “المطلوبة” و”المتوقعة”، على كل حال، وكان لافتاً أن ردود الفعل كانت حاسمة وفورية وصريحة، ولم تتردّد إطلاقاً في تسمية الأشياء بمسمّياتها، ومنذ اللحظات الأولى لـ”لإعلان” عن “الاحتجاج” المشهدي والمبهرج. فالسوريون جميعاً، وفي المقدّمة منهم أبناء السويداء، أدركوا، على اختلاف آرائهم وتوجّهاتهم، أن الموقف ينطوي على الكثير من الخطر، وأن هناك من يستخفّ في العبث باستقرار المدينة، ويعمل على جرّها عنوة إلى حيث ترفض ولا تقبل: مرتعاً للعصابات الإجرامية، وجنّة للصوص والميليشيات، وحديقة للعملاء من كل حدب وصوب، وساحة لتصفية الحسابات وصراعات الزعامات في الداخل والخارج، على السواء.
كان هناك من يحاول دفع الشارع إلى خلق فوضى تعيد البلاد إلى آذار 2011، ولكن أجهزة الدولة، بكل مستوياتها الأمنية والإدارية، أكدت، مرة أخرى، وعيها العميق والحاد لتطوّرات الحدث، ورفضت الانجرار إلى “فخ” الاستفزاز الذي كان بضعة من المتخفين والملثمين أداته المباشرة في مخطط تفجير الأوضاع، وكانت واضحة أجهزة “الثريا” بين أيدي “متظاهرين” يشكون الجوع والبرد والأحوال المعيشية المتردّية، وكان واضحاً، بالمقابل، أن أساليب وأدوات الاحتجاجات “المفبركة”، والمصنّعة، والمعدة سلفاً، لم تعُد تنطلي على أحد، وأنها تهالكت، بل استُهلكت تماماً، وباتت خردة لن يستطيع الأمريكيون، ولا البريطانيون، ولا الإسرائيليون، ولا القطريون، تجديدها، بل باتت هدفاً للشماتة والاستهزاء والسخرية، وأنه بعد أكثر من 11 عاماً على أول “صرخة” مستعارة، يسلك “الحمل الكاذب”، اليوم، في مساراتٍ معاكسة، ويتغيّر المدّ لتعلو الاحتجاجات ضد كل من يتراءى له أن الوطن يختٌ على الشاطئ، أو مزرعة مريحة، فمَن يُرِد التدفئة فليستعدَّ لمقاتلة المحتلين الأمريكان، ومن يُرِد مقاتلة الأمريكيين فعليه أن يلتحق بصفوف أفراد الجيش العربي السوري الذين وحدهم يتجمّدون من البرد، في هذه المواجهة المصيرية الممتدة على عشرات الخنادق والجبهات، والتي تشهد كل يوم استخدام مختلف أنواع الأسلحة.
حدثت الصدمة الإيجابية، وكان واضحاً أن الشعب السوري يدرك في قرارة نفسه وروحه عمق وطبيعة المشكلة، بل بات مستعدّاً لتقبّل ما ينطوي عليه حلها من تحمّل ومشقة، إيماناً بعزة وإباء وكرامة هذا الوطن، وقيادته ممثلة بالرئيس الأسد، فكان ذلك الإجماع العفوي، والفوري، والغريزي، المعلن وغير المعلن، على التوحّد بالوطن، والتوحّد بالألم، والانتصار للمعاناة المشتركة، ولفظ كل ما يمكن أن يوحي أو يشير إلى “إعادة توزيع” المحنة، أو رمي أحمالها كيفما اتفق، أو التصرّف بمنطق التفرّد أو الخصوصية!.
كانت تلك، بشكل أو بآخر، لحظة مكاشفة وطنية نادراً ما تحدث إلا أمام الشعور الداهم بالخطر الجماعي، والإحساس العام بالمسؤولية المشتركة. ولربما كان ذلك أحد الدروس العميقة لما بعد الحرب، ولكنه أيضاً نوع من يقظة جماعية فريدة ينبغي علينا، جميعاً، التأسيس عليها.