مجلة البعث الأسبوعية

“الأيام الخوالي” للقطبية الأحادية والهيمنة ولّت

البعث السبوعية- المحررة السياسية

دعا المستشار الألماني أولاف شولتز في خطاب حول الإستراتيجية الاقتصادية، ألقاه خلال منتدى نظمته صحيفة ” زود دويتشه تسايتونغ” مؤخراً، ألمانيا إلى توجيه نفسها نحو واقع عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد يرتب نفسه الآن.

كان شولتز قد صرح في رده على رواية مفادها أن أوروبا وأمريكا الشمالية يمكنهما ببساطة العودة إلى النمو الاقتصادي الموثوق به بعد الاضطرابات الناجمة عن فيروس كورونا والأزمة في أوكرانيا، أن القوة المتنامية لآسيا قد غيرت المشهد الدولي بشكل جذري. ولذلك لن تكون هناك عودة إلى الأيام الخوالي التي تمتعت فيها أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية بنمو اقتصادي مستقر ومعدلات توظيف عالية.

إن هذا اعتراف ضمني، من بين أمور أخرى، بأن ثروة الغرب قد بُنيت بدرجة كبيرة على أساس انتزاعها وسلبها من العالم النامي. لقد كانت “الأيام الخوالي” عندما كانت أوروبا وأمريكا الشمالية غنية، وكانت آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي فقيرة وتابعة.

لقد كان الأساس المادي لهذه الأيام الخوالي هو الاستعمار، وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، والإبادة الجماعية للشعوب الأصلية في الأمريكتين، ووحشية التخلف في أفريقيا، وحروب الأفيون، وأكثر من ذلك، حيث أحدثت النزعة التوسعية والنهب الممنهج خلال القرون السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر عالماً غير متوازن إلى حد كبير، تهيمن عليه حفنة من القوى الرأسمالية الغربية.

لقد تم تعطيل هذا الترتيب المريح بسبب ” ثورة تشرين الأول”، التي شكلت بداية حقبة جديدة من تاريخ العالم. حيث  أدى بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي والصين وكوريا وفيتنام وأوروبا الشرقية وكوبا، والموجة القوية للتحرر المناهض للاستعمار في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى إحداث تحول عميق في السياسة العالمية.

لكن الولايات المتحدة وحلفائها عملوا كل ما في وسعهم لتقويض العالم الاشتراكي، وفرض الهيمنة الاستعمارية الجديدة في تلك الأماكن التي تم فيها تفكيك الحكم الاستعماري. و هذا هو السياق للحرب الباردة، وللحرب الكورية، وحرب فيتنام، و الإطاحة بالحكومات التقدمية من إندونيسيا إلى غرينادا إلى تشيلي، ودعم أنظمة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وزيمبابوي وأماكن أخرى. كما كانت الحروب في يوغوسلافيا والعراق وأفغانستان وليبيا، جنباً إلى جنب مع عدة جولات من توسع الناتو، حلقات مبكرة في مشروع قرن أمريكي جديد، وهو الاقتراح الأمريكي لتوطيد وتوسيع هيمنتها في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي، لكن الصين ودول أخرى، ولا سيما في جنوب الكرة الأرضية، كانت تتحرك في مسار مختلف، من خلال السعي وراء مشروع متعدد الأقطاب ومتعدد الأطراف، على أساس مبادئ ميثاق الأمم المتحدة.

هذه الاستراتيجية موجهة نحو السلام الدائم والتنمية السيادية في جميع أنحاء العالم، ومظهرها في الواقع واضح بما فيه الكفاية، ففي حين أن الولايات المتحدة هي إلى حد بعيد زعيمة العالم في الإنفاق العسكري، والقواعد العسكرية، وحروب العدوان، وعمليات تغيير الأنظمة، والعقوبات أحادية الجانب، والإكراه الاقتصادي، إلا أن الصين هي الرائدة عالمياً في التجارة ذات المنفعة المتبادلة، وتطوير البنية التحتية، والطاقة المتجددة.

كان رد إدارة بايدن على صعود التعددية القطبية هو تصعيد الحرب الباردة الجديدة بقيادة الولايات المتحدة وتعزيز الانفصال، وتقسيم العالم إلى كتلتين متنافستين وحصريتين. وبينما قدم بايدن هذا الانقسام على أنه بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، إلا المجموعة التي يحاول تأسيسها في الواقع تستند إلى عقيدة جورج دبليو بوش: “إما أن تكون معنا أو ضدنا”.

أنشأت الولايات المتحدة اتفاقية “أوكوس” العام الماضي – مجموعة من البلدان التي يوحدها الالتزام بالإمبريالية – من أجل  محاولة تعزيز التطويق العسكري للصين. في غضون ذلك، استغلت واشنطن الأزمة في أوكرانيا لتجنيد أعضاء جدد في حلف شمال الأطلسي ومحاولة إضعاف روسيا من خلال إطالة أمد الصراع (وهي استراتيجية لها بعض أوجه الشبه مع دور الولايات المتحدة في أفغانستان في الثمانينيات).

تتعرض القوى الأوروبية لضغوط هائلة من أجل “فك الارتباط” بالصين وروسيا، لكن مثل هذا الفصل لا يخدم مصالح شعوب أوروبا. و لذلك كان ذهاب شولتز إلى بكين في أوائل تشرين الثاني الماضي تأكيداً على الاستقلال السياسي في أول زيارة يقوم بها رئيس دولة غربي إلى الصين منذ بداية الوباء، وبعد أيام فقط من اختتام المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني. وعلى الرغم من الانتقاد الكبير لبعض محاربي الحرب الباردة بين الطبقة السياسية الألمانية، ناهيك عن التذمر من عدم موافقة واشنطن، لكن يبدو أن شولتز أدرك – كما فعلت سلفه أنجيلا ميركل – أن أيام القطبية الأحادية والهيمنة قد ولت.

قبل مغادرته إلى بكين، قال شولتز بصراحة: ” إن الصين تظل شريكاً تجارياً وتجارياً مهماً لألمانيا وأوروبا. لا نريد الانفصال عنها”.