مجلة البعث الأسبوعية

ماكرون يعود متأخراً إلى موسكو؟

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

بعد خيبة الأمل الكبيرة التي حصدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن وعدم حصوله على جواب شافٍ من الرئيس الأمريكي جو بايدن على الأسئلة الأوروبية الكثيرة حول قانون خفض التضخم الأمريكي الذي تمّ إقراره طبعاً دون التشاور مع مَن يُفترض أنهم حلفاؤه الأوروبيون، رغم أنه يؤثر بشكل مباشر في الاقتصادات الأوروبية، وخاصة في الدول الصناعية وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، حيث استنكر ماكرون الإجراءات الاقتصادية “الشديدة العدوانية” التي اتخذها نظيره بايدن لتعزيز قطاع الصناعة الأمريكي، منتقداً تجاهل رأي الأصدقاء الجيّدين من أمثاله في هذا القانون قبل إقراره، بعد كل ذلك يبدو أنه بات ضرورياً التفكير بالعودة إلى موسكو مجدّداً، لأن واشنطن لم تتمكّن من سدّ الفراغ الروسي في أوروبا.

فالحمائية التجارية غير المقيّدة التي تمّ رفضها أوروبياً عندما تحدّث عنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عاد الرئيس الأمريكي الديمقراطي الحالي لتمريرها، تحت عنوان تعزيز قطاع السيارات الكهربائية بهدف استحداث مزيد من الوظائف الصناعية وتحقيق الانتقال في مجال الطاقة وإحراز تقدّم في المنافسة التكنولوجية مع الصين، وفي حقيقة الأمر هناك سعي أمريكي واضح لاستجرار رؤوس الأموال الأوروبية إلى السوق الأمريكية، وبالتالي تدمير الاقتصاد الصناعي الأوروبي.

هذا التجاهل الذي لمسه ماكرون من البيت الأبيض للمخاوف الفرنسية، ومن ورائها الأوروبية، جعله يقول: إنه يحافظ على اتصالات مباشرة بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، بل أضاف في مقابلة مع قناة CBS التلفزيونية: “أحافظ على مناقشات منتظمة واتصال مباشر مع الرئيس بوتين، لأنني أعتقد أن أفضل طريقة لاستئناف التفاعل هي الحفاظ على قناة الاتصال المباشرة هذه”.

وشدّد ماكرون على أنه في مثل هذه الحالة، تبقى “العزلة هي الأسوأ”.

وواضح طبعاً حجم اليأس والشعور بالعزلة وخيبة الأمل بعد الردّ الأمريكي برفض مطالبه في التنسيق حول الإجراءات الاقتصادية المتخذة من الإدارة الأمريكية، وبالتالي فإن السبيل الوحيد لإنهاء النزاع في أوكرانيا، “هو من خلال المفاوضات”.

ومن هنا، يصرّ ماكرون على أنه لا يجري أيّ محادثاتٍ غير رسمية مع ممثلين عن روسيا وأوكرانيا، لأنه يتحمل دائماً المسؤولية عن أفعاله ويقوم بالإعلان عنها.

ويوم السبت الماضي، أكد ماكرون في مقابلة مع TF1 أنه يأمل إجراء محادثة هاتفية مع بوتين في المستقبل القريب ليتطرّق خلالها إلى الوضع حول محطة زابوروجيه الكهروذرية، بينما هو في الحقيقة يبحث عن سبيل للعودة إلى الحوار مع موسكو من بوابة هذه المحطة.

ولكن أن تصل الأمور بالرئيس الفرنسي إلى الإعلان أن بلاده والدول الغربية الأخرى لا تسعى إلى تدمير روسيا، بعد جميع الإجراءات والعقوبات المتخذة ضدّها التي تفنّن الأوروبيون إلى أبعد حدّ في ابتداعها، هذا يقود إلى مجموعة من التساؤلات أهمّها، أين كان الوعي الأوروبي طوال الفترة الماضية من التحريض على روسيا واستعدائها؟ وما مسوّغ نظرات الاستياء التي لمحها في عينيّ بوتين عندما قابله آخر مرّة لو لم يكن هناك ما يبرّرها بالفعل؟ وإذا لم تكن العقوبات الغربية غير المسبوقة المفروضة على روسيا الغرض منها بالفعل تدمير روسيا، وخاصة أنها وصلت إلى الأدب الروسي الإنساني، فما الغرض منها إذن؟.

ليس غريباً إذن أن يتذكّر ماكرون أن لدى فرنسا علاقاتٍ وثيقة للغاية مع روسيا من وجهة نظر ثقافية وتاريخية، فضلاً عن احترم الشعب الروسي وتاريخه العظيم على حدّ قوله، ولكنه لم يُجب عن السؤال المحوري هنا، وهو: من أين أتت “روسوفوبيا” لو كان ذلك صحيحاً بالفعل؟.

كذلك لم تسأله القناة ذاتها حول تفسيره لإصرار الحلف العسكري الذي ينتمي إليه، وهو حلف شمال الأطلسي “ناتو”، على التوسّع شرقاً، ورفضه إعطاء ضماناتٍ أمنية لروسيا حول ذلك، في الوقت الذي كان يمكن فيه للغرب أن يتوخّى جميع الخسائر والانعكاسات السلبية المترتبة على الحرب في أوكرانيا لو أنه أخذ المخاوف الروسية بعين الاهتمام.

الأمر الذي لم يُعلن عنه ماكرون في مقابلته، ربّما تكفّل نائب قائد البحرية الأمريكية الأسبق، سيث كروبسي، بالإعلان عنه من أن “حلفاء واشنطن الأوروبيين”، مستاؤون من سياساتها تجاه الأزمة الأوكرانية، وأساليبها في مسألة احتواء الصين، حيث أوضح كروبسي لصحيفة “ناشيونال إنترست”، أن الولايات المتحدة تواجه مشكلة خطيرة، وأن السياسة الأوروبية تجاه روسيا والصين تتعارض مع المسار السياسي الأمريكي.

وأضاف: إن فرنسا وألمانيا تسعيان إلى التخلص من سيطرة الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، وإن ذلك يفسّر رغبة باريس وبرلين في التوصل إلى تسوية للأزمة الأوكرانية، لأنها أدّت إلى زيادة تدخل واشنطن في الشؤون الداخلية الأوروبية.

وأشار إلى أن القانون الأمريكي لخفض التضخّم أصبح سبباً آخر لزيادة الخلافات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأن هذه الوثيقة تشكّل تهديداً للصناعات الأوروبية، لأنها لا تحتوي أية بنود تشير إلى سبل تعويض الاقتصاد الأوروبي عن الخسائر التي ستلحق به.

وتواجه الدول الغربية ارتفاعاً حاداً في أسعار الطاقة وتضخّماً مالياً غير مسبوق، بسبب العقوبات ضد موسكو ومحاولات التخلّي عن الوقود الروسي، كما فقدت الصناعات الأوروبية الكثير من مزاياها التنافسية التي ألقت بظلالها على الاقتصاد بشكل ملحوظ.

وهذا كله ربّما يعدّ سبباً كافياً لاضطرار الغرب الأوروبي إلى العودة مجدّداً للحوار مع موسكو، وخاصة بعد تأكّده أن حليفه الأطلسي يسعى إلى تدمير الاقتصاد الأوروبي ليتفرّغ بعد ذلك إلى محاولة احتواء الصعود الصيني.

وكانت صحيفة “بوليتيكو”، أفادت في وقت سابق من الشهر الماضي، بأن الرئيس الأمريكي كان أكثر دهاءً من “سلفه الفزاعة” دونالد ترامب، وأصبح صديقاً يقول الأشياء الصحيحة، لكنه يترك المتاعب.

واتّهم الصحفي في “بوليتيكو” نيكولاس وينوكور، الرئيس الأمريكي بتجاهل مصالح أوروبا بسبب قانون خفض التضخم، حيث تتضمّن الوثيقة إدخال حزمة ضريبية كبيرة، وتخفيض تكاليف الرعاية الصحية والانتقال إلى الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية.

وحسب الصحيفة، فإن المسؤولين في بروكسل يضعون بالفعل خططاً لاحتياطي طارئ من الإعانات لإنقاذ الصناعة الأوروبية من الانهيار.

وأضافت “بوليتيكو”: إن سياسة الولايات المتحدة تجاه الاتحاد الأوروبي تقوم على “اللامبالاة المهذبة”، فعلى الرغم من الإنفاق الضخم على المساعدات لأوكرانيا، لا تزال واشنطن تركّز على مواجهة الصين.

ومع كل ازدراء جديد، يعرب الأوروبيون عن صدمتهم وخيبة أملهم وفزعهم، كيف لا تستطيع واشنطن التشاور مع حلفائها، أو على الأقل إبلاغهم بخططها، والجواب الأمريكي دائماً هو، “إنه لأمر مؤسف أن حدث ذلك، لم نتوقّعه حتى”.

وفي وقت سابق، ذكرت الصحيفة، أن الاتحاد الأوروبي اتهم الجانب الأمريكي بتحقيق أرباح كبيرة بسبب الأزمة في أوكرانيا وأوروبا، ويشير التقرير إلى حدوث انقسام بين كبار السياسيين الأوروبيين، حيث يعتقد المزيد من المسؤولين أن الولايات المتحدة تستفيد من الوضع الحالي.

كل ما سبق يؤكّد شيئاً واحداً فقط، أن الدول الغربية لا تعني بالنسبة إلى الولايات المتحدة إلا وسيلة من الوسائل المستخدمة في حروبها، وبمجرّد الانتهاء من هذه الخدمات يتم الاستغناء عنها، وربّما أدركت الدول الأوروبية متأخرةً هذه الحقيقة، وهذا بالفعل ما توصّل إليه بعض الحكام الأوروبيين، وماكرون في مقدّمتهم.