الضغط يولد الاعتراف.. أوروبا تستفيق من أحلامها
البعث الأسبوعية- رغد خضور
غضب أوروبي واستنكار وتنديد واستهجان لسياسات واشنطن في المنطقة، هكذا وبعد عقود من التبعية فطن ساسة أوروبا بأن ما تقوم به الولايات المتحدة يصب لمصلحتها فقط، وأنها لا تلقي بالاً للشعوب والدول الأخرى، حتى الحلفاء منهم.
ففي الوقت الذي يتوجب على المواطن الأوروبي “تخفيف أوقات استحمامه وتحديدها” ليكون “مواطناً صالحاً” بنظر حكومته، استفاق القادة الأوروبيون من أحلامهم الوردية، وأدركوا فداحة ما أقدموا عليه بالسير خلف واشنطن في حربها ضد روسيا، وفرض العقوبات عليها.
هذا الحال كان قد حذر منه الكثيرون نتيجة الاعتماد الأوروبي الكبير على الطاقة الروسية، وغيرها من المواد الداخلة في الكثير من الصناعات والزراعات الأوروبية، واليوم باتت أوروبا تحصد نتائج أفعالها، وانقيادها الأعمى وراء رؤساء البيت الأبيض.
وكما يقال بأن أوروبا لا تستيقظ إلا بالأزمات، فقد بدأ رؤساء ومسؤولو الاتحاد الأوروبي يفكرون بشكل جديّ بمصير علاقتهم بواشنطن، حليفهم الأول، أو هكذا يعتقدون، فالأخيرة، رغم وعودها بأنها ستتكفل بمصادر الطاقة لأوروبا وأن البدائل متوفرة، لم تتخذ أي إجراء من شأنه مساعدة حليفتها وشريكتها في “الناتو”، بل على العكس فقد كانت سبباً لمضاعفة أزمة أوروبا والتضييق عليها.
أوروبا التي لم تكد تتعافى من تبعات أزمة فيروس كورونا، والتي عززت الشرخ الحاصل بين دولها، وفاقمت الوضع الاقتصادي أكثر من خلال الإجراءات التي اضطرت الدول لاتخاذها وضخها كميات كبيرة من الأموال لمجابهة تلك الجائحة، وقبلها الأزمة الاقتصادية 2008، التي تركت آثارها في العديد من الدول الأوروبية حتى اليوم، وما يزال بعضها، كالبرتغال وإسبانيا واليونان، تتلقى مساعدات سنوية من الاتحاد لسد العجز في موازنتها العامة، لتأتي أزمة الطاقة الروسية وتزيد الضغط على تلك الدول ومقدراتها المالية والبشرية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا الآن استفاقت أوروبا؟ لماذا تأخرت الصحوة الأوروبية كل تلك السنين؟ هل لأن مصالحها تضررت وبشدة ووصل الأمر إلى بيوت ومكاتب قادة الاتحاد، وليس فقط شعوبهم؟ وهل كانت لتبقى صامتة، كعادتها، إزاء ما تفعله واشنطن لولا تضييق الخناق عليها اقتصادياً؟.
ربما لم يكن بإمكان إعلاء الصوت والقول جهراً أن سياسات واشنطن تضر بأوروبا، بسبب المصالحة المتشابكة والمتداخلة بينهما، حيث سعت إدارات البيت الأبيض لإبقاء اعتماد أوروبا عليها بشكل كبير، وانقيادها لكل ما تمليه عليه، بغض النظر عن مدى الضرر الذي سيلحق بالتكتل الدولي جراء ذلك، وجردتها من امتيازاتها، شيئاً فشيئاً، وأغرقتها في المشاكل لتنقذها فيما بعد وتزيد القيود عليها..
ونعود للتساؤل بأنه ألم ترى دول الاتحاد ما فعلته واشنطن في أغلب دول العالم، ألم يتعلموا من تجارب غيرهم، ويعوا بأن أمريكا لا حلفاء ولا أصدقاء لها سوى مصالحها وحدها، وأنها تتخلص من كل أتباعها حال انقضاء أعمالها التخريبية؟. لن نذهب بعيداً، فأقرب مثال كان أمام أعين الأوربيون، الانسحاب الأمريكي، الأحادي، من أفغانستان، وكذلك مطالب إدارة ترامب من الاتحاد بتخفيف الاعتماد على الطاقة النووية، بحجة حماية البيئة والمناخ العالمي.
لطالما زجت أمريكا حلفاءها في الحروب والأزمات وتتنصل منها بعد تحقيق مآربها، دون النظر لما حل بهم من خسائر، وفي حربها ضد روسيا والصين، لا تلقي الإدارة الأمريكية بالاً لما يحصل داخل الاتحاد، ولا يضرها حصد أهدافٍ إضافية بإضعاف القارة العجوز أكثر فأكثر.
وبالنظر إلى السنوات الأخيرة، من عمر العلاقات الأوروبية الأمريكية، نجد الكثير من الدلائل والبراهين التي تثبت ضرورة تخلي أوروبا عن تبعيتها للولايات المتحدة وتحقيق الاستقلال الذاتي بعيداً عن سيطرة وسطوة البيت الأبيض، غير أن الأوهام والمخاوف التي غذتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة قيدت هذا التحرر وكبلت أوروبا بالأغلال وحدت من قدرتها على السير بشكل منفرد.
وليس هذا وحده، بل إن أمريكا لم تكن لتسمح لأي دولة أوروبية أن تغرد خارج السرب، فما أن تطل إحداها وتنادي بحقوقها حتى تجد لها مأزقاً توقعها به لتشل حركتها. مؤخراً كانت الأصوات الأوروبية، والفرنسية خاصة، تنادي بتشكيل جيش أوروبي بعيداً عن عسكرة الناتو، وهذا بالتأكيد لا يرضي السيد الأمريكي، فهو الذي أوجد الحلف الأطلسي ليبقى مسيطراً على قرارات تلك القارة ويتحكم بمصير شعوبها، لذا كانت الأزمة الأوكرانية، التي أوقعت أوروبا في الحضيض.
وعلى الرغم من كل النزعات الفردية للانفصال عن واشنطن والتفرد بالقرار السيادي، إلا أن المخاوف التي تعششت في عقول الأوروبيين من الخطر الروسي أولاً، والصيني ثانياً، كانت كفيلة بردع أي محاولة للاستقلال، هذا “البعبع” الذي زرعت واشنطن الخوف منه في قلوب أوروبا وغذته على مدى عقود، كان كفيلاً بالانصياع الكلي لها والانقياد خلفها للتخلص منه والقضاء عليه.
والإدارات الأمريكية لم توفر جهداً إلا وحرضت أوروبا لمحاربة روسيا ومنع تقدم الصين اقتصادياً، في كل المحافل وبكل المناسبات، وأنها وحدها الخلاص لهم والحامي لمصالحهم والمدافع عن مقدراتهم، وعليه انشغل الأوروبيون بمحاربة تلك الأوهام وتنفيذ ما يُملى عليهم وهم لا حول لهم ولا قوة.
قادة أوروبا على دراية تامة بأن واشنطن لا تخوض حروبها مباشرة، بل لديها بيادقها الخاصة التي تحركهم كما تشاء بدلاً عنها، ولكن عدم امتلاكهم لقرارهم الخاص جعل من الصعب عليهم عدم الخوض في حرب على روسيا، ولو بالوكالة أيضاً، في أوكرانيا، والإمعان بفرض العقوبات على موسكو رغم معرفتهم، يقيناً، بأنهم أول المتأذين منها ومن تبعاتها.
يبدو أن الحكومات الأوروبية لم تفلح بالجمع بين متناقضتين، الوحدة الأوروبية والاستقلال الذاتي والتبعية لأمريكا، ولكن الضغوط الكبيرة التي تتلقاها والأزمات التي تعصف بها، بسبب “حليفها” الأكبر، لم يعد بإمكانها السكوت عنها، وهي التي غرقت في مستنقع الحروب الأمريكية الذي لم يعد بإمكانها الخروج منه، بإرادتها على الأقل.
الصحوة الأوروبية جاءت متأخرة جداً تجاه ما يحدث، والدعوات للاستيقاظ والحذر ما كانت لتطلق لولا أن دول الاتحاد بدأت تلمس عواقب ما اقترفته وتدرك خطورة ما أقدمت عليه، وتصاعد حدة الخطاب والاتهام المباشر لأمريكا بالتكسب من الأزمة على حسابها، لم نكن لنشهده في حال كان الوضع مختلفاً، فهل تحشد أوروبا إمكانياتها ضد واشنطن لوقف ممارساتها العدائية، أم أن تلك الأصوات ستتخافت إذا ما قدم البيت الأبيض لتلك الحكومات ما يسكتهم حتى إشعار أخر؟.