مسارات الزمن
سلوى عباس
يقول العرافون إنه من دلائل الهزة الأرضية، كما جاء في كتاب الدليلة الفلكية للنبي دانيال، أنه إذا حصلت في شهر كانون الأول هزة أرضية أو رجفة أو صاعقة فإنها ستعمّر مدينة بأرض الشام ويصير رخص ويعمّ العدل وتكون سنة خير على الناس وينهون كلامهم بعبارة “والله أعلم” ليبرأوا ذمتهم مما أوردوه من كلام.
ولكن.. كيف للخير أن يعمّ علينا ونفوسنا غارقة بالجشع؟ هل الحرب أظهرت بشاعتنا، أم أن البشاعة كامنة في أعماقنا وجاءت الحرب لتظهرها بأسوأ صورها، حيث تمادت بنا الحياة في تشعباتها الكثيرة ومساربها العميقة، تتقاذفنا في كلّ الاتجاهات وتجعلنا نتلاشى في زحمة المطالب، نلهث للإمساك باللحظة الشاردة وإروائها بالمزيد من اللهاث، فلا نسمع إلا ضجيج أرواحنا، لأنه في هذا الزمن المجلل بالقهر والتوتر لا يستطيع الإنسان إلا أن يستسلم لتداعياته هرباً من واقعه المؤلم، وما خلفته الحرب فينا من فراغ وألم، وكم من الندبات تركت في أرواحنا، وهذا الغلاء الفاحش، والخيبات التي أصابتنا من أقرب الناس إلينا، وأحلامنا التي انقلبت إلى كوابيس، وليالينا باتت سواداً حالكاً، ونهاراتنا نيراناً تلتهم الأخضر واليابس، فقد اختلفت ملامح الزمن ومعاييره مثلما اختلف ناسه، أصبحنا نهمل الأولويات في الحياة ونركز على الهوامش، يهمنا أن نظهر أمام الآخرين كما يرغبون لا كما نقتنع، نعيش التناقض والازدواجية في سلوكنا وتفكيرنا وعلاقاتنا، فلا تسألوا لماذا يفقد الناس عفويتهم وصدقهم؟ بل اسألوا لماذا لا يصبحون كذلك إزاء كلّ ما يمكن أن نفقده في يوم أو في لحظة.. بل لنسأل أنفسنا قبل الآخرين: ما الذي يجعلنا نصمد أمام تحولات الزمن وغدراته؟!
هذا السؤال المرّ يجرّ وراءه الكثير من الأسئلة التي تحتاج لإجابات تفسّرها وتوضحها، ليبقى هؤلاء الناس، ونبقى نحن معهم، على قيد أمل أن تهبّ رياح على نبتة الروح المتوهجة في محاولة عاصفة لاستلاب تلك الحياة، وتتفجر الشكوى أنيناً مكبوتاً بأن هناك شيئاً عزيزاً يتسرّبُ من بين شراييننا نحاول الإمساك به، قد نستطيع وقد لا نستطيع. إنها المحبة التي يحولها إيقاع الحياة السريع إلى كائن يكاد ينزوي جوعاً، إنها المشاعر التي تجعل للعيش مذاقاً لاذعاً وحميماً، والتي بدونها لن نستطيع الحياة، فالمشاعر المتبادلة خارج إطار المصالح والحاجات والمواقف الصغيرة في حياتنا كالكلمة الرقيقة واللمسة الحانية التي تعتبر شرياناً حقيقياً للحياة أخذت تتوارى بفعل الحرب والدمار وطغيان العلاقات المادية والتقادم، وكأن الزمن هو المقياس الحياتي الأصدق للعلاقة الإنسانية، فأيامنا بحاجة إلى زيادة مساحة الحب تجاه الآخرين وترجمتها إلى سلوكيات فاعلة واهتمام وجداني صادق، وفي قفرة العمر هذه مازلنا بحاجة إلى اتكاءات روحية ومشاعر متجذرة لا إلى أكوام ومستوردات مزيفة.. إننا بحاجة إلى إشراقة شمس حقيقية تنير عتمة أيامنا.