ثقافةصحيفة البعث

كنينة دياب في “إلى ما بعد الأبد”.. نهايات معلقة لمكاشفة الذات.. والجريمة أحياناً!!

ملده شويكاني

“للقهوة رائحة لا تضاهيها أية رائحة سوى رائحة التراب بعد زخات المطر” النهاية التي توصلت إليها بطلة قصة شفق بعدما ارتأت أن تبيع منزلها في زحمة المدينة، وتقطن في قرية ريفية جبلية باردة، لتكون إحدى القصص التي تضمنتها المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة والشاعرة كنينة دياب، بعنوان “إلى ما بعد الأبد”، الصادرة عن دار الغانم للثقافة، وتميزت بتنوع لغة السرد بين الواقعية التي هيمنت على أغلب القصص والرومانسية المتكئة على وصف الطبيعة وتغلغلها بالأحداث المؤثرة بالشخصيات، وبالإطار العام لعناصر القصة القصيرة المكتملة من حيث الأشخاص والزمان والمكان والحدث، وبين رسم حالة الشخصية بوصف دقيق وتسجيل التفاصيل المتعلقة بالشخصية بما يشبه الأقصوصة مثل قصة شفق.

الحبّ المدمّر

أما شخصيات الكاتبة فأغلبها نسائية إذ وصفت حالات متباينة تعيشها الأنثى التي تحاول أن تخرج من شرنقة الحزن لكنها تبقى رهينة القدر، كما تطرقت إلى مسائل اجتماعية تنم عن قسوة مؤلمة تدور حول الأنثى التي دمّرها الحبّ، والأخطاء بالتربية التي تودي إلى الغيرة خاصة بين الشقيقات، إضافة إلى حالات ولّدها المجتمع، إلا أنه السمة البارزة هي التنوع بالأسلوب السردي من حيث البدايات وتعدد الأصوات والحوار واستخدام صوت السارد بضمير الغائب حيناً، والنهايات المعلقة التي تنتظر الحل وفق تخيلات المتلقي بعد أن رسمت له دياب المشهدية التصويرية بالكلمات، لاسيما في حال وقوع جريمة كما في قصة سعيدة الممرضة التي تدفع ثمن خيانة زوجها وقسوة الحياة، فتحاول أن تنقذ نفسها لكن السكين كانت أسرع “عند الفجر، وجدت مطعونة بمدية في صدرها، والشرطة تفتح تحقيقاً قبل نقل الجثة”.

 التنوع بالسرد

وفي قصة دمعة دافئة دمجت كنينة دياب بين أساليب عدة، مبتدئة بحضور البطلة الشخصية الرئيسة بإشارة دلالية إلى واقعها الحزين ووصولها إلى حافة اليأس”فتحت النافذة، نظرت إلى البعيد، البعيد، أغمضت عينيها، دمعة حرّى تسللت، نزلت بهدوء، تحرق وجنتيها” لتضع الكاتبة المتلقي إزاء الحدث مباشرة بمعرفة السبب والكشف عن أزمة عاطفية بتعبير جميل جداً موظفة فيه مصطلح “الانطفاء” هذا الرجل أطفأها كما يطفئ الناس شمعة عيد الميلاد، “ثم تابعت السرد بوصف الزمن الفعلي الذي تعيشه البطلة التي تزوجت منذ أعوام طويلة ومازال قلبها ينبض بغرام الرجل الذي خذلها وجعلها كئيبة تشعر بالحنين إلى حبها وحلمها” يرحل الفرح مع رحيل السنونو إنما من دون عودة فتجمع بين السارد الذي تقمص شخصية البطلة بضمير الغائب وصوت البطلة الذي يقتحم الأحداث بمسارين متداخلين بين مشاركتها زوجها الحياة الهادئة الساكنة لاسيما أنهما لم ينجبا أطفالاً ولم يعترض الزوج أو يسأل كما أفصحت الكاتبة لعلمه بأنه هو السبب، وبين صراعها الداخلي مع عالمها الافتراضي الذي تفترض فيه البطلة أنها أنجبت، فكيف ستحمي أولادها في حال الطلاق؟ وتعود الكاتبة من تساؤلات البطلة إلى صوت السارد والإشارة إلى دخول البطلة بالاكتئاب وتحذير الطبيب لها، إلا أنها استسلمت للحزن ففتك بها، لتأتي النهاية الحزينة الصادمة” مازال الجسد دافئاً…إنما انتهى كل شيء …انطفأت، تلاشى نورها، خمدت كل نار فيها، ارتاحت وأراحت.

صوت الرجل

كما تطرقت إلى عالم الرجل بالولوج إلى مشكلة التقاعد والإحساس بالنهاية، المشكلة التي تنسحب على الأنثى والرجل معاً، إلا أن الكاتبة تناولتها بأمل جديد والبحث عن بداية جديدة بصوت رجل عاد إلى الماضي ليكتشف أنه تخلى عن كثير من الجماليات من أجل العمل، إذ ابتعد عن عالم الفنّ الضوئي الذي يحبه وترك الكتب والروايات التي وصل إلى نصفها، والأهم ترك دراسة الدكتوراه، فقرر البداية بالعودة إلى كل ما تخلى عنه سابقاً، في قصة إشراقة جديدة “استلقى في سريره، وعيناه تضجان بأمل جديد، ومستقبل مشرق طالما تمناه”.

الاعتداء الإسرائيلي

أما قصة “إلى ما بعد الأبد” التي حملت عنوان المجموعة، فتدور حول قصة حب في منطقة حدودية تعرضت لاعتداء إسرائيلي وإبادة أهل القرية في حرب النكسة 1967، فتفرق الحبيبان، وبعد سنوات تصله منها رسالة أنها في بمشفى البيروني لكنه يصل متأخراً بعد وفاتها. والمفارقة أنها بقيت مخلصة له، أما هو فتزوج وعاش حياته كأي رجل، وتناساها مع السنوات “هو إنسان قبل كل شيء، وليس قديساً بالتأكيد، لذا فقد بدأ ينساها شيئاً فشيئاً”.

ومضات مرقمة

وفي “مرايا وصور” تستخدم الكاتبة أسلوب الاختزال بكتابة ومضات مؤلمة مرقمة أشبه بقصص قصيرة متسلسلة بإطار متصل –منفصل، تقترب من خصوصية القصة القصيرة جداً من حيث النهاية المفاجئة المعتمدة على عنصر الدهشة لكن بسردية أطول، تدفع ثمنها الأنثى وحدها ويبقى المجرم طليقاً لا يحاسبه القانون ولا المجتمع. وللأسف مازالت هذه القضايا الشائكة موجودة ولم يطرأ عليها أي تغير، فتبدأ برقم واحد بعنوان انسحاب، تدور حول اغتصاب أنثى من قبل سائق التكسي “لاتعرف ماذا يمكن أن تقول في التحقيق، ابتلعت آلام فضيحتها وانسحبت”.

وفي رقم أربعة بعنوان “عودة”، تختزل حكاية حب بين فتاة وشاب جرت إلى الخطيئة بعد أن أوقع بها  وأقنعها بالهرب معه، “دللها كثيراً، لكن أرادها هكذا من دون عقد زواج” وبعد أن حملت رحل وتركها، لتأتي النهاية غير المتوقعة “وما من سبيل سوى العودة لأهلها، حتى لو ذبحوها”.

والجدير بالذكر أن الكاتبة اهتمت بالجمل القصيرة، والتركيز على علامات الترقيم التي تساعد على فهم المضمون والإيحاء بالأحداث، وفي مواضع على التوكيد اللفظي.