أوروبا على المحك… تفكك واختلافات تعصف بالجميع
البعث الأسبوعية- ريا خوري
كانت أوروبا وما تزال تبحث عن الأمن والأمان بعد الحرب العالمية الثانية، لأنَّ الأمن يشكل لها هاجساً كبيراً، وكانت حين تبحث عن مفازة كانت ترى أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) يعتبر الحامي والمدافع عنها ضد أي خطر خارجي داهم، ولأن حلف الناتو يشكل مظلة أمنها الرئيسية حتى انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، ومحاولة جمهورية روسيا الاتحادية بعد ذلك انتهاج سياسة انفتاح واسعة خارج الصراع السياسي والإيديولوجي، واتباع سياسة السوق الحرة، وتطبيع العلاقات مع ( الناتو) من خلال إقامة مجلس روسيا – حلف شمال الأطلسي في محاولة منها طمئنة جيرانها الأوروبيين بأن المرحلة الماضية التي اتسمت بالحرب الباردة انتهت دون رجعة، ولا بدَّ من إقامة علاقات سياسية وأمنية ودبلوماسية تقوم على الاحترام المتبادل بين الأطراف، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وعدم توسيع باتجاه حدودها الغربية من منطلق إقامة أمن حقيقي ومتوازن يحفظ مصالح الجميع دون تمييز.
لكن الأطماع الغربية المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي عملت وما تزال تعمل على توسيع وتمدّد الحلف وضم معظم دول أوروبا الشرقية، التي كانت قبل العام 1991 ضمن المجال السوفييتي، وصولاً إلى العام 2008، عندما حاولت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ضمّ جمهورية جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف.
وفي قمة الحلف آنذاك التي عقدت في العاصمة الرومانية بوخارست، وحضرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيفاً، طرح الرئيس الأمريكي الأسبق بوش مسألة الانضمام بشكلٍ علني وصريح، لكن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أحبطا المحاولة آنذاك، لأن مثل هذه الخطوة تعرّض أوروبا وأمنها إلى الخطر باعتبارها تمثل استفزازاً لجمهورية روسيا الاتحادية التي ترى أن انضمام جمهورية جورجيا وأوكرانيا خط أحمر بالنسبة لأمنها الوطني.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية بقيت تعمل سراً على تطويق روسيا من خلال تحويل جمهورية أوكرانيا إلى مخلب قطٍّ لها، بتدبير أطلق عليه اسم “تمرّد مسلح” في شهر شباط عام 2014، أطاح الرئيس المنتخب فيكتور يانكوفيتش، الأمر الذي دفع القوات الروسية إلى استعادة شبه جزيرة القرم، لأنها جزء لا يتجزأ من جمهورية روسيا الاتحادية، ثم تطورت الأمور بشكلٍ متسارع إلى الحرب الأخيرة قبل نحو تسعة أشهر، بعد أن كانت روسيا دعت أكثر من مرة الدول الغربية للتوقف عن توسيع الحلف شرقاً، وعدم انضمام أوكرانيا إليه، وضمان حيادها الكامل، والعمل على تحقيق أمن متبادل بين الأطراف.
عندما طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ضرورة تقديم ضمانات أمنية لجمهورية روسيا الاتحادية، حيث تمثل موقفه بوجوب التفكير في الهيكل الأمني القومي والاستراتيجي الذي ستعيشه القارة في المستقبل، وهنا كان الحديث بشكل خاص عن كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن ( الناتو) يقترب من حدود روسيا وينشر أسلحة فتّاكة يمكن أن يهددها، وهذا يعني بوضوح تام أنّ هناك وعياً كبيراً بأهمية توفير الأمن الاستراتيجي المشترك لكل من روسيا الاتحادية وأوروبا بشكلٍ عام، ودول الاتحاد الأوروبي بشكلٍ خاص، والتوقف بالسرعة الممكنة عن استمرار الزحف باتجاه الحدود الروسية، باعتبار أن الأمن الاستراتيجي مصلحة مشتركة لكل دول القارة الأوروبية بعيداً عن أهداف الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تعير أي اهتمام لهذه المخاوف، بخاصة أن روسيا كانت قد تقدمت في شهر كانون الأول عام 2021، أي قبل اندلاع الحرب الأوكرانية بمشروعي اتفاقيتين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلف(الناتو) حول مسألة الضمانات الأمنية الاستراتيجية، لكنها لم تتلقّ رداً إيجابياً من طرفها. مع العلم أنَّ أوروبا قد سعت باتجاه إعادة هندسة بلدانها كما خلفتها الحرب العالمية الثانية .
لكن هندسة أوروبا الجيوسياسية تعرّضت للإهتزازات العنيفة، خاصةً عندما وُضعت على أنقاض الحرب العالمية الثانية، ولم يتضح مداها واستحقاقاتها بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وفي قلب هذه الهندسة الجيوسياسية توجد الشراكة الألمانية – الفرنسية التي توُصف عادة بـ (دينامو الاتحاد الأوروبي) ومحرِّكه الأقوى، لكن حالة الصراع المستحكم في أوكرانيا واستطالاته واستحقاقاته العالمية كان لها الأثر الكبير على دول العالم، وأن العقوبات الجائرة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول الاتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي ارتدت سلباً عليها، حيث مسّت بشكلٍ مباشر الحياة اليومية للأوروبيين.
لقد راهنت ألمانيا الاتحادية على تشبيك علاقاتها الاقتصادية مع روسيا ما بعد الحرب الباردة، ورأت في ذلك الضمانة الحقيقية للأمن في أوروبا، غير أن ألمانيا وأوروبا تجد نفسها اليوم في موقف لا تحسد عليه أبداً، على الرغم من أن هذه الحرب مكنت من فقدان روح الشراكة الأطلسية، وضعف التنسيق، وخلط صفوف (الناتو) عبر تقديم الدعم العسكري الهائل لأوكرانيا، ومحاولتها القيام ببلورة موقف موحد صارم في مواجهة روسيا، غير أن غياب أفق لنهاية الحرب في أوكرانيا يطرح السؤال الهام والضروري حول قدرة الأوروبيين على الحفاظ على ما تبقى من موقف أمام انفجار نسبة التضخم الكبيرة، وغلاء المعيشة، وتضرّر المواطن الأوروبي من نتائج هذه المواقف، وتضارب المصالح في كثير من الأحيان بين شركاء التكتل في القارة الأوروبية .
على سبيل المثال، اعتمدت حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ثم بعدها المستشار أولاف شولتس على الحوار مع روسيا، وتم طرح استخدام طرق سياسة جديدة تجاه روسيا، والتي تم التعبير عنها بأنها يجب أن تكون سياسة خالية من الأوهام.
لقد حرصت ألمانيا مراراً على إقامة علاقة جيدة مع روسيا لاعتباراتٍ تاريخيةٍ مرتبطةٍ بمشاعر تأنيب الضمير، وبمشاعر الذنب بسبب غزو النظام النازي الهتلري لروسيا، والخسائر البشرية والمادية الهائلة التي تكبدتها روسيا خلال الحرب العالمية الثانية. إضافة إلى كون حقيقة أن الوحدة الألمانية التي جرت بين شطريها ما كانت لتتم دون موافقة روسيا.
مع وصول المستشار الألماني أولاف شولتز لمنصب المستشارية في شهر كانون الأول عام 2021 خلفاً للمستشارة أنجيلا ميركل، اندلعت أزمة حادة بين ألمانيا وفرنسا بسبب التحديات غير المسبوقة التي خلقتها الحرب في أوكرانيا، والقرارات الساخنة التي اضطرت العاصمتان برلين وباريس لاتخاذهما بسبب الحرب الدائرة هناك، حيث ظهر بشكلٍ واضح تعارض للمصالح في عدد كبير من الملفات، فعلى سبيل المثال لا الحصر أعلنت ألمانيا خطة لإنفاق ما لا يقل عن مئتي مليار يورو لدعم أسعار الغاز الباهظة بعد العقوبات الجائرة التي فرضها الغرب الأمريكي- الأوروبي على روسيا. هذه الخطة انتقدتها عدد من الدول الأوروبية التي اعتبرتها قراراً اتخذ من جانب واحد دون التشاور داخل التكتل في القارة الأوروبية العجوز، باعتبار أنها قد تُخل بقواعد المنافسة في أوروبا بشكلٍ عام، حيث بدت ألمانيا وكأنها غير متضامنة مع باقي دول الاتحاد الأوروبي في موقفها ضد روسيا.