مجلة البعث الأسبوعية

“الناتو” قلق من توسّع النزاع.. فهل يملك إيقافه

البعث الأسبوعية ــ بشار محي الدين المحمد

نلحظ الحماس الكبير لدى واشنطن لتأجيج الحرب الأوكرانية وإطالة أمدها، بشكل يكشف تورّطها المفضوح، سواء في التصريحات الرسمية المتواترة، أو عبر زيادة الأسلحة المرسلة إلى كييف، كماً ونوعاً في الآونة الأخيرة. وعلاوة على ذلك، تقول صحيفة “واشنطن بوست” إن أمريكا لا تمانع من استهداف نظام كييف للداخل الروسي، في حين أعلن البنتاغون عن خطط لتحديث الثالوث النووي للقيادة الاستراتيجية الأمريكية. ويترافق هذا التصعيد الأمريكي مع تقدّم ميداني روسي يتمثّل في استعادة مساحات من أراضي جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الروسيتين، وتوجيه ضرباتٍ موجعة للبنية التحتية الأوكرانية، وخاصة الكهربائية، في العمق الأوكراني، وتوقع كبير بأنّ موسكو تُتد العدة لهجوم شامل ومركّز بعد تجميع قواتها على جميع جبهات أوكرانيا.

بعض الخبراء يرون في هذه الخطوة التصعيدية رغبة أمريكية بريطانية في استفزاز الجبهة الروسية لكشف ما لديها من أسلحة وتقنيات عسكرية سرية، وكشف خطواتها واستعداداتها ومداها على الأرض. أما كييف فكانت تريد سابقاً الحفاظ على أراضيها، بينما يخطوا الآن قادة نظامها في مسارٍ انتحاري دون أي اعتبارات لشعبهم ومعاناته، وهم مستعدون لتنفيذ أي سيناريو تصعيدي بغض النظر عن حساب نتائجه.

على الصعيد الأوروبي، أطلق أمين عام حلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، تصريحات تعبر عن القلق من اقتراب المواجهة، وتحوّل الحرب في أوكرانيا إلى حربٍ كبرى بين “الناتو” وروسيا. وهذه التصريحات بالتأكيد أتت من تماس أمين الحلف مع الإدارة الأمريكية، ولمسه لديها اقتراباً جدياً من الخطوط الحمراء للدولة الروسية، مع تزايد تدفق الدعم العسكري الأمريكي إلى نظام كييف، إضافة للغارات الأوكرانية للطائرات المسيرة الأوكرانية على قواعد عسكرية في الداخل الروسي، كما أن أغلبية ضباط الناتو هم من الأمريكيين ومقربون من دوائر صنع القرار الأمريكي.

لكن ما يستشف من تصريحات ستولتنبرغ أن الناتو لا يريد التورّط في هذه الحرب، كما أن هناك دولا أوروبية عديدة تشترك معه في ذات المسار، وعلى رأسها فرنسا، حيث أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه سيتحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجدداً، وفي تصريح آخر أكد أنّ الهيكلية الأمنية المستقبلية لأوروبا يجب أنّ تحتوي ضمانات أمنية لروسيا، وهذا يشي بمدى ميل ماكرون إلى حل العقد وإنقاذ فرنسا وجميع أوروبا من انعكاسات الحرب وغلاء المعيشة وارتفاع فواتير الطاقة التي تعصف بها قبل غيرها من الدول. كما يكشف مدى التباين مع السياسات الأمريكية المستفيدة من الحرب ولو على حساب من سمتهم “حلفاءها” في أوروبا.. أيضاً انتقد السياسي الفرنسي فلوريان فيليبو رئيس النظام الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، داعياً لوقف توريد الأسلحة للقوات الأوكرانية، وذلك بعد ورود أنباء عن استنفاذ ترسانات البلاد الاحتياطية.

ويتوقع بعض المحللين أن تقود باريس دوراً إيجابياً يخفف من سعير الحرب الأوكرانية عبر إقناع دول الناتو بإنهاء حالة التصعيد، والوعي بصورة أكبر لما تشهده دولهم من انهيارات تتمثل في التضخم والركود الاقتصادي المحقق، ابتداءً من بريطانيا وصولاً لكبرى دول الاتحاد الأوروبي، في بداية العام 2023. ولكن الجبهة الأوروبية ليست موحّدة، فألمانيا أشارت أنها تأمل بإلحاق الهزيمة بروسيا، وترافق ذلك مع تصريحات غامضة ومتخبطة للمستشار أولاف شولتس، حيث أكد أنه من الضروري مواصلة المفاوضات مع الرئيس بوتين، مشيراً إلى أن هناك آراء مختلفة مع الجانب الروسي، وإلى أنه سيتابع الحديث معه “للخروج من هذا الوضع، في حين تتخذ دول شرقي أوروبا المحاذية لروسيا، ومعها دول البلطيق، موقفاً متطرّفاً وتسعى نحو خلق المواجهة بين الناتو وروسيا. وفي النهاية فإن الناتو مسيطر عليه أمريكياً وأغلب الدعم المادي له مصدره واشنطن، وبالتالي مهما تعالت تحذيرات قادته فلا قرار لهم فيما يتعلق بخفض التصعيد ضدّ روسيا.

من جانبها، ذهبت الصين في تحذيراتها أبعد من ساحة المعركة ومحيطها، مشيرةً إلى أنّ الأسلحة التي ترسل إلى نظام كييف أصبحت متواجدة بكثافة في الشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا. وكما هو معلوم، يمد الغرب أوكرانيا بكميات كبيرة من الأسلحة، وهذا ما يبرر تسربها للأسواق في تلك المناطق بما يضمن ربح مصنعي الأسلحة الأمريكيين وبعض الساسة في الغرب وفي نظام كييف.

موسكو، من جانبها، حذّرت من ضرب نظام كييف للأراضي الروسية ومن زيادة الأسلحة الموردة لها، ونوّهت إلى أنّ أمريكا هي من تقوم بتشغيل منظومات صواريخ هيمارس للجيش الأوكراني، وأنّ ضباطا أمريكيين وبريطانيين موجودون في محيط أوكرانيا يديرون المعركة لصالح كييف، ويزودونها بصور الأقمار الصناعية والمعلومات على الأرض. كما ترى موسكو أنّ ما هو مطروح هو الحل العسكري لا السياسي بسبب إصرار الغرب على استمرار دعمه لزيلينسكي، ووضع شروطٍ تعجيزية للتفاوض.

وفي النظر إلى السيناريوهات المحتملة فإنّ روسيا لم تعد تنتظر مؤشرات على بدء المواجهة مع الغرب، فالمواجهة بدأت بشكل فعلي لا لبس فيه، وبعض الخبراء لا يستبعدون مواجهة قد لا تسلم منها حتى أراضي البر الأمريكي، فالرئيس بوتين كان واضحاً في تصريحاته عندما أكد أنه في حال عجزت بلاده عن صدّ صواريخٍ متوجهة نحو أراضيها فإنها سترد بالمثل. وكما هو معلوم، فإنه لدى روسيا غواصات تحمل صواريخ بالستية محملة برؤوس نووية. ووفقاً لتصريحات واشنطن ذاتها فإنّ هناك غواصات روسية قريبة من أراضيها تحت الماء وهي قادرة على الصمود لفترة طويلة كونها تعمل بالوقود النووي، كما يمكن لموسكو ضرب أراضي ولاية آلاسكا.

ولكن بعض المحللين يرون أنّ الحرب ستبقى محصورة، مهما تمددت قرب أوروبا والبحر الأسود، ويستندون في ذلك إلى ما لمسوه من تحضيرات حقيقية لمواجهات قادمة بين الناتو وروسيا، مع حركاتٍ مكثّفة للتغلغل الاستخباري الأمريكي في دول البلطيق، ناهيك عن خيبة الآمال من حدوث مفاوضات للتهدئة خلال قمة العشرين.

إنّ المجريات الأخيرة للأحداث تعبّر بشكل صريحٍ عن مدى ذوبان القرار الأوروبي وعجزه عن الوقوف في وجه الجنوح نحو التصعيد الإجباري من الجانب الأمريكي. وبعد أن دفعت واشنطن القارة العجوز نحو سلسلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يبدو أنها ستدفعها نحو ساحة مواجهة قد تسحقها أو تسحق عددا من دولها، دون أي حساب، على الرغم من تصريحات بعض القادة الأوروبيين الذين باتوا يعترفون صراحة بضعف أوروبا الشديد تجاه القوة الروسية وعدم استعدادها للمواجهة حالياً.