صلاح فضل أيقونة النقد العربي المعاصر
جمان بركات
فقدت الساحة الأدبية العربية والثقافية عموماً والنقدية خصوصاً واحداً من أبرز فرسانها اللامعين بوفاة الناقد الدكتور صلاح فضل الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي وهو يشغل موقع رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة متوجاً بوجوده فيه مسيرة ثقافية وعلمية ونقدية سطرت ما يقرب من الأربعين مؤلَّفاً تشهد على ثقافته الواسعة وعلمه الغزير. وإذا كنت سأتوقف في هذه العجالة عن نتاجه الأدبي والنقدي عند نقطتين أساسيتين هما إسهامه المبكر في تقديم النظرية البنيوية إلى النقد العربي المعاصر، والثانية تنوع إنتاجه النقدي بين اتجاهات النقد الحديث المختلفة، فهذا لا يعفي من المرور سريعاً بأبرز محطات حياته الأكاديمية والثقافية والنقدية.
فقد حصل فضل على شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة مدريد بإسبانيا عام 1972 بعد أن كان قد أوفد إليها ببعثة دراسية. درّس في قسم اللغة العربية بجامعة الأزهر قبل أن يستقر بصورة نهائية أستاذاً للنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية الآداب بجامعة عين شمس منذ عام 1979. كان واحداً من المؤسسين للمجلة النقدية الأشهر في الوطن العربية وهي مجلة فصول وعمل في رئاسة تحريرها. كما شارك في إنشاء الجمعية المصرية للنقد الأدبي وشغل منصب رئاستها عام 1989. انتخب في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في العام 2005 وأصبح رئيساً له في العام 2020. نال عدداً من الجوائز التي قدّرت إنتاجه الأدبي والنقدي منها:
– جائزة البابطين للإبداع في نقد الشعر عام 1997،
– جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2000،
– جائزة النيل في الآداب عام 2018.
في النقطة الأولى، كان صلاح فضل البادئ بإصدار كتاب مخصص للحديث عن التنظير للبنيوية التي درسها خلال مرحلة تحضيره للدكتوراه في إسبانيا وكانت حينها الموجة الطاغية في النقد الأدبي في أوروبا عموماً وفي بلد المنشأ فرنسا -جارة إسبانيا- خصوصاً، فقد نشر كتابه “نظرية البنائية في النقد الأدبي” عام 1978 وتناول فيه مقدمات أسهمت في نشوء البنيوية وأهمها مدرسة جنيف والشكلانية الروسية وحلقة براغ ومعطيات علم اللغة الحديث الذي وضع أركانه ورسم معالمه النظرية رائده فرديناند دو سوسور، ثم ينتقل فضل في كتابه هذا لتحديد مفهوم البنية والبنيوية وتطبيقاتها في العلوم الإنسانية الحديثة قبل أن يدخل في صلب موضوعه وهو البنيوية في النقد الأدبي موضحاً حضور البنيوية في الأدب وتعددية المعاني والتحليل اللغوي. ويتوقف عند مستويات التحليل الأدبي وشروطه كالتفضيل الجمالي اللغوي على التاريخي الاجتماعي وآليات التحليل والمبادئ التي تقوم عليها. وأردف بتخصيص باب خاص للشعر في الرؤية البنيوية عبر بنية التعبير الشعري والاستعارة والصورة ومستويات التحليل الصوتية والدلالية واختلافها بين الشعر والنثر والوظيفة الشعرية ودور الموسيقى فيها، وباب آخر للقصة يبرز بنيتها والوحدات المكونة لها والنموذج السيميولوجي في تحليلها ودور الفاعل والراوي والوصف فيها. ويحدد فضل أيضاً أهم النظم السيميولوجية وارتباطها بالأدب كارتباطها بعلم اللغة وقواعد توزيع الوحدات اللغوية وتركيب الرمز اللغوي وطبيعة الصورة الشعرية ونظام الرموز الأدبية وأنواعها ورمزية الصوت الشعري وخواص الأسلوب البنيوية. ويختم كتابه بإلقاء نظرة على بعض الدراسات التي قاربت البنيوية قبل كتابه التي لم تكن مخصصة لهذا المنهج الجديد وإنما أشارت إلى بعض أوجهه مثل دراسة نازك الملائكة التي كتبتها مطلع الستينيات عن هيكل القصيدة، وكذلك فعل الطاهر لبيب عندما درس الشعر العذري ونشر بحثاً عنه عام 1974، وثالثة عن البنية القصصية في رسالة الغفران نشرها حسين الواد عام 1975 لم تكن موفقة على الإطلاق كما وصفها صلاح فضل.
يشرح فضل في مقدمة كتابه دوافعه لنشر هذا الكتاب، وبعد أن يذكر أهمية هذا المنهج في عالم الثقافة والفكر والأدب في أوروبا، وأنه يترتب علينا متابعة ما يجرى على تلك الساحة لنفيد منه يبين أن التلقي العربي لهذا المنهج عانى من السذاجة والتسرع في الحكم على ما نجهله وغياب الأدوات البحثية والنقدية والمنهجية المناسبة، وهذا ما يحاول الكتاب -كما يقول فضل- مقاومته “عندما يقدم نموذجاً تفصيلياً لأحدث نظريات الفكر وأدقها وأسعها انتشاراً في العالم اليوم، حتى أنها تخطت الحواجز الأيديولوجية المعهودة بين الشرق والغرب”، كما علّل سبب اختياره تعبير البنائية بدل البنيوية بقوله: “فحتى المصطلح الأساسي وهو اسم البنائية لم يتم الاتفاق عليه في اللغة العربي، فبعض الباحثين يستخدم كلمة بنيوية -نسبة إلى البنية- وهو اشتقاق صائب لولا أنه يجرح النسيج الصوتي للكلمة بوقوع الواو بين ضرتيها، بما يترتب على ذلك من تشدق حنكي عند النطق، وهذا ما جعلنا نعدل عن هذه التسمية ونفضل عليها (البنائية) لسلاستها وقرب مأخذها، راجين أن تكون هذه السيولة اللفظية ذريعة لسيولة أخرى أعز وأغلى وهي السيولة الفكرية والدلالية”. صحيح أن مصطلح البنائية لم يصمد أمام انتشار نظيره البنيوية، لكن يبقى يذكر لصلاح فضل أنه نال كان سباقاً في تقديم البنيوية إلى القارئ العربي بطريقة منهجية وسلسلة إلى حد بعيد. وهذا ما أكده أمجد ريان في كتابه عن صلاح فضل والشعرية العربية حين قال: “وقد سبق صلاح فضل نقاد البنيوية بإصدار كتابه “نظرية البنائية في النقد الأدبي” وهو كتاب مهم فتح الطريق لعدد ضخم من الدراسات البنيوية لكي تصدر بعده، وتثري المكتبة العربية”.
في النقطة الثانية يجد المتتبع لأعمال صلاح فضل أنه لم يلتزم بمنهج نقدي واحد لا في التقديم التنظيري للمناهج ولا في دراساته النقدية التطبيقية، كما أنه نوع بين تقديمه التنظيري للمناهج النقدية والدراسات الجمالية والأسلوبية والبلاغية، وتناول الشعر مثلما أفرد أعمالاً كثيرة للمسرح والرواية، فكتب: “ظواهر المسرح الإسباني” 1992، و”أساليب السرد في الرواية العربية” 1993، و”بلاغة الخطاب وعلم النص” 1993، “أساليب الشعرية المعاصرة” 1995، و”سرديات القرن الجديد” 2014، وخصص لأشكال التخييل وللصورة والجماليات أبحاثاً رائدة مثل: “أشكال التخيل، من فتات الحياة والأدب” 1995، و”قراءة الصورة وصور القراءة” 1996، و”جماليات الحرية في الشعر” 2005، و”التمثيل الجمالي للحياة في الرواية” 2009، كما لم ينس الحديث عن الصوت الأنثوي في كتابه “وردة البحر وحرية الخيال الأنثوي” 2004. ولابد من الإشارة أيضاً إلى دراساته التطبيقية التي ترجمت طروحاته النظرية لاسيما حين كتب “فصول عن شوقي أمير الشعراء” 2009، و “محمود درويش، حالة شعرية” 2010، و”عوالم نجيب محفوظ” 2011، و “أحفاد نجيب محفوظ” 2016.يضاف إلى ذلك دراساته المقارنة وترجماته من الإسبانية إلى العربية.
ومتابعةً لما سبق نذكر أنه في الوقت الذي نشر فيه كتابه عن البنيوية أصدر في العام نفسه كتابه الذي يعد في الضفة الأخرى من الدراسات النقدية وهو “منهج الواقعية في الإبداع الأدبي” 1978 الذي تناول فيه وجوه الواقعية برؤيتيها الغربية النقدية والسوفيتية الاشتراكية، والأسس الجمالي للواقعية ونقد الواقعية للمذاهب الأخرى ورصد للتنويعات الواقعية في آداب البلدان المختلفة. وسبق هذين الكتابين نشره كتاباً عن الرومانسية بعنوان “من الرومانث الإسباني: دراسة ونماذج 1974 تحدث عن “علم الأسلوب”، مبادئه وإجراءاته، 1984وأراد من خلاله تقديم اتجاه نقدي لم يظفر بما يستحقه في اللغة العربية من رعاية واهتمام حتى الآن؛ إذ إنه على أصالة جذوره في ثقافتنا للوهلة الأولى، وتوافر الأسباب لنموه عندنا، ودوره كوريث شرعي للبلاغة العجوز التي أدركها سن اليأس وحكم عليها تطور الفنون والآداب الحديثة بالعقم، ينحدر من أصلاب مختلفة، ترجع إلى أبوين فتيين هما علم اللغة الحديث -أو الألسنية إن شئنا أن نطلق عليها تسمية أشد توافقاً مع دورها في أمومة علم الأسلوب- من جانب، وعلم الجمال الذي أدى مهمة الأبوة الأولى من جانب آخر”. أما كتابه “شفرات النص، بحوث سيميولوجية” 1989 فقد صرح في مقدمته أنه يحاول ارتياد “أفق جديد في التحليل النقدي، من منظور تطبيقي، بدلاً من الوقوف عند التكوينات النظرية، والتعثر في الأسماء والمصطلحات…”. ودرس في الكتاب نماذج شعرية للبياتي وعبد الصبور وغيرهما وأفرد للملامح الأسلوبية في شعر الحداثة فصلاً خاصاً، كما تحدث عن شعرية القص فاشتغل على “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ وشعرية الحياة عند طه حسين ولغة الدراما ودرامية اللغة في المسرح ثم نراه يصدر كتاباً يجمع فيه المناهج النقدية المعاصرة تحت عنوان “مناهج النقد المعاصر” 2002 عرّف فيه المنهج ووزع المناهج على قسمين: المناهج التاريخية وفيها التاريخي والاجتماعي والنفسي والأنتروبولوجي، والثاني المناهج الحداثية وفيها البنيوي والأسلوبي والسيميولوجي والتفكيكي ونظريات التلقي والقراءة التأويلية وعلم النص. وختم الكتاب بالحديث عن جيل الأساتذة النقاد في القرن العشرين وتوقف عند نقاد الأدبونقاد الحداثة.
ومن دراساته المقارنة نذكر “تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي” 1980. أما ترجماته فمعظمها عن المسرح الإسباني مثل: “حلم العقل ودون كيشوت”، لـبويروباييخو 1975، و “وصول الآلهة” لـبويروباييخو 1977، و”الحياة حلم” لـ كالديرون دي لاباركا 1978.
والواقع أن نتاجات صلاح فضل النقدية تنقلت بين معظم المناهج النقدية المتداولة حتى أيامنا هذه ختمها بـ “شعرية التوهج الحسي” 2013بـ “سرديات القرن الجديد” 2014، “أطياف نقدية” 2016، “أنساق التمثيل الروائي” 2018.