دراساتصحيفة البعث

حركة “مواطني الرايخ” والانقلاب الفاشل في ألمانيا

ريا خوري

تعرّضت جمهورية ألمانيا الاتحادية لعملية انقلابية فاشلة من قبل “حركة مواطني الرايخ” التي تأسّست منذ عدة سنوات، كان هدف هذه الحركة اليمينية المتطرفة هو الإطاحة بالدولة الألمانية، وبنظام الحكم فيها.

الجدير بالذكر أنّ أعضاء حركة “مواطني الرايخ” لا يعترفون بالحكومة الألمانية، ولا الدولة الألمانية الحديثة التي تأسّست بعد انهيار النازية الهتلرية، ولا يعترفون بقوانينها وتشريعاتها وهيئاتها ومؤسّساتها، ويمتنعون عن دفع الضرائب المفروضة، والمخصّصات الاجتماعية المستحقة عليهم بموجب القانون والدستور، ويصرّون على أن “الرايخ الثاني”، أو الامبراطورية الألمانية الكبرى، لا تزال قائمة.

وكان من بين مخططات الحركة اليمينية هو اقتحام مبنى البرلمان الألماني “البوندستاغ” على غرار العملية التي قام بها الشعبويون الأمريكيون المتطرفون في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قاموا باقتحام مبنى الكابيتول. كما أنّ هذه الحركة تؤمن بنظرية (كيو أنون) وهي نظرية سياسية تأتي تحت عنوان المؤامرة من ابتداع اليمين الشعبوي الأمريكي المتطرف، التي تتضمن خططاً وعمليات تفصيلية سرّية مزعومة لما تمت تسميته “الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية” التي قامت ضد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وأنصاره ومؤيديه. كما ترفض حركة “مواطني الرايخ” فكرة وجود فيروس كوفيد 19، وقاموا بالتظاهر ضد الحكومة الألمانية لاتخاذها قرارات العزل الاجتماعي.

في حقيقة الأمر لا يمكن أن نقرأ ما حدث في ألمانيا مؤخراً قراءة عابرة، لأنّ ما حدث لا يمكن تصديقه للوهلة الأولى، لأنّ أي حديث عن مخطط انقلاب عسكري في ألمانيا، كأنها جمهورية فاقدة للكثير من عناصر ومقومات الدولة.

إنَّ العملية التي قامت بها السلطات الألمانية وأحبطت مخطط الانقلاب كانت ناجحة نوعاً ما في المنظور العام، لكن في حقيقة الأمر حاولت السلطات الألمانية في الوقت نفسه التخفيف من وطأته وقسوته على الرأي العام، بادعاء أن التنظيم محدود الإمكانيات وضعيف وتمَّت السيطرة عليه بسرعة، وأنَّ الأمن الألماني متأهب دائماً، والديمقراطية آمنة وأنّ الحياة تسير على ما يرام.

ولا نعتقد أن هذه الحقيقة كاملة، بل هي نصف الحقيقة، فالمعلومات الصادرة عن السلطات الألمانية تؤكد أن التنظيم ينضوي على أكثر من 26 ألف عضو، بعضهم في الجيش الألماني وقيادته، وبعضهم داخل الأجهزة الأمنية نفسها، وتفكيكها كاملاً يحتاج إلى جهد كبير وغير عادي.

يعتبر هذا التنظيم من أخطر التنظيمات اليمينية الشعبوية المتطرفة، فهو يؤمن بضرورة طرد المهاجرين، ولا يعترفون بجمهورية ألمانيا التي تمّ إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية 1945، ولا يؤمنون بأوراقها ومنظومتها الإدارية ومستنداتها.

لقد استفاد هذا التنظيم من الأفكار الفلسفية التي قدّمها الفيلسوف الألماني أوسفالد أرنولد غوتفريد شبينغلر، والفيلسوف نيتشه، كما يستلهم مخطط الانقلاب في برلين تجربة الزعيم النازي الفوهرر أدولف هتلر الذي تم إحكام قبضته على السلطة في ألمانيا، عندما وظّف حريق مبنى “الرايخستاغ” البرلمان الألماني، عام 1933، لإعلان الطوارئ والبطش بخصومه السياسيين والعسكريين.

لم تكن مصادفةً أن تتضمن عملية الانقلاب حرق البرلمان الألماني الحالي “البوندستاغ”، والقيام باغتيالات سياسية لشخصيات مهمّة، وإثارة الفوضى في أنحاء ألمانيا، لتقويض مؤسسات وهيئات وإدارات الدولة والاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية.

لقد اختلفت الأحوال والظروف اختلافاً كبيراً، لكن في حقيقة الأمر نحن أمام قوة من الماضي مسكونة بالمخططات والمشاريع نفسها، لأنه  لا شيء يولد من فراغ، أو بالمصادفات.

لم يكن تنظيم “مواطني الرايخ” اليميني المتطرف سرّاً مغلقاً على الاستخبارات الألمانية وأذرعها، التي حذرت قبل عدة أشهر من أعمال تخريبية خطيرة قد يلجأ إليها على خلفية الحرب العسكرية الساخنة في أوكرانيا.

لقد شهدت ألمانيا عبر تاريخها عشرات الانقلابات، برزت خلالها العديد من التنظيمات اليمينية المتطرفة مثل حزب “بيغيدا”، وغيره. ومن هنا يمكننا توقع استمرار محاولات الانقلاب بعد هذه المحاولة التي تم إجهاضها في محاولة إحياء “الرايخ” الألماني من الحقبة النازية، رمزاً للإمبراطورية الألمانية والنفوذ والقوة في مجابهة ما هو ماثل من تبعية مفرطة للنفوذ والهيمنة الأمريكية والبريطانية والفرنسية. وهذا الاعتقاد تؤمن به العديد من التيارلات والقوى السياسية الأخرى التي تنتشر على مساحة واسعة من ألمانيا، وهذه القوى تميل باتجاه اليسار لكنها لا تدعو إلى تغيير النظام السياسي الألماني بالقوة أو استخدام العنف.