“أطفال السماء” البراءة المستلبة
سلوى عباس
من مميزات السينما الإيرانية الحس الإنساني العذب والمرهف، والتزام قضايا الفقر والحياة القاسية للبشر في المدن والأرياف، وقضايا النساء والأطفال عبر واقعية تزاوج الرمز وتتحد معه لدرجة يصعب فيها فصله عن الواقع وفصل الحقيقة عن الخيال، لدى كل المخرجين دون استثناء ومن أجيال مختلفة، وهذا ماتجلى واضحاً في فيلم “أطفال السماء”، للمخرج مجيد مجيدي، الذي شاهدته أول مرة في عام ٢٠٠٢، ومنذ أيام عرض على شاشة الفضائية السورية فتابعته بذات الاهتمام والشغف لراهنيته وطزاجة طروحاته، فحال بطلي الفيلم علي وزهرة هي حال كل أطفال العالم الذين يعيشون قسوة الفقر وظروف الحياة.
تتناول أحداث الفيلم عمالة الأطفال الذين يضطرون للعمل من أجل تأمين معيشتهم وإعانة أسرهم، فبطل الفيلم علي الذي لم يتجاوز عمره الاثني عشر عاماً وثلاثة من أصدقائه ينتشرون في شوارع طهران وأسواقها لكسب قوتهم اليومي، ويأتي الفيلم بمثابة استنكار لهذه المشكلة الاجتماعية التي تعني العالم كله وليس إيران فقط.
كما يحكي الفيلم أيضاً قصة بطلاها طفلان (علي وأخته زهرة) يواجهان مأزقاً خطيراً يسعيان لمعالجته بعيداً عن معرفة والدهما، ففي بداية الفيلم نرى علي يحمل كيساً داخله حذاء أخته زهرة، ولكنه قبل أن يصل إلى المنزل يتوقف قليلاً أمام محل لبيع الخضار، فيفقد الحذاء ويبدا بالبحث عنه، وينشغل مع أخته بالتخطيط لعدم معرفة والدهما بهذه الكارثة ويتناوبان على ارتداء حذاء رياضي، وفي سياق الأحداث يشارك الأخ بمسابقة للجري تقيمها إدارة المدرسة ويهدف من خلالها الحصول على المرتبة الثالثة لأن جائزتها حذاء رياضي، وخلال السباق يشعر علي بالإجهاد، لكن صوت أخته زهرة، وهي تركض في الشارع لتوصل له الحذاء، يرن في أذنه فيفوز بالمرتبة الأولى، والمؤلم هنا الخيبة التي ارتسمت على وجه علي لأن أحلامه توقفت عند الحصول على حذاء لأخته، فكيف يمكن أن يكون النجاح أكبر خيباتنا وأقساها على مشاعرنا؟ لكن كما يبدو أن ذلك يحصل حين يتعارض مع حاجتنا لتحقيق ذاتنا، ففي البعد الإنساني تعطينا الانتصارات مجداً زائفاً أمام أرواحنا الجريحة، لأنها لم تستطع أن تحقق ذاتها في أعماق الإنسان.
أبطال المخرج مجيدي أطفال فقراء يعوزهم المال لكن لا تعوزهم السعادة، فعلي وزهراء يواصلان عدوهما بين الأزقة، دون شكوى أو التماس مساعدة، يجدان سعادة في أبسط الأشياء ولو في لعبة فقاعات الصابون، وحين سئل مجيدي عن سبب تفضيله لمراقبة العالم من منظور الأطفال في أفلامه قال: “عالم الأطفال هو عالم النقاء والإخلاص، إنهم يؤمنون بكل ما تقوله لهم، وبراءتهم لها أثر علينا، وهذا ما أرغب دائماً في التعبير عنه”. وقد حملت أفلام مجيدي بعداً إنسانياً لأن موضوعاتها مستمدة من الحياة الواقعية، مما يجعلها وسيطاً للتعبير عن ذاته وحياته الشخصية والصعوبات التي واجهته منذ الصغر، فبموت والده وهو طفل ودّع الطفولة مبكراً وتحمّل المسؤولية، والصعاب التي اعترضت طريقه هي التي شكلت شخصيته، وأوجدت لها امتداداً في أعماله، حيث يلاحظ أن العائلة تشغل حيزاً كبيراً في جميع أفلامه، فهو يرى أن الحفاظ على شمل العائلة ضرورة لا غنى عنها، وبالأخص في عصر الحياة الافتراضية التي طغت على علاقاتنا وشوهتها.
“أطفال السماء” فيلم حاصل على العنقاء البلورية لأفضل فيلم في مهرجان الفجر الخامس عشر، وفي عام 1998 رشح لجائزة كان والأوسكار لأفضل فيلم أجنبي كما حاز على جوائز دولية ومحلية عديدة، وهو بما يحمله من قيم تربوية وروحية يسجل بصمة إبداعية في الفن السينمائي، مؤكداً أن السينما الإيرانية في معالجتها للمواضيع كلها تبقي النوافذ مشرعة على الضوء والأمل أيماناً من صنّاعها بحتمية التفاؤل بالارتقاء نحو الأفضل.