سورية والمنطقة و”دكتاتورية الجغرافيا”
أحمد حسن
أغلق العام الفائت أبوابه على الجرح السوري المفتوح، بيد أنه في اللحظة ذاتها فتح أبواباً جديدة يبدو أنها – رغم مواربتها وضرورة مقاربتها بحذر – استنفرت الحلف الأمريكي – الإسرائيلي، فاستنفر الأول “جيشه الإرهابي” في شرق سورية، وكان العدوان الآثم على عمال النفط الأبرياء، الذي يحمل أيضاً صفة الخطوة الدمويّة لدعم “الجنرال دولار” في حربه الفاجرة ضد سورية، بينما جاء العدوان الإسرائيلي الأخير، في أول العام، على مطار دمشق الدولي ليعيدا، أي العدوانان، بدلالاتهما المباشرة والبعيدة، تسليط الضوء على حقيقة بسيطة ومعبّرة، مفادها أن جوهر ما جرى ويجري يومياً رغم، بل، ومع كل محاولات ستره بضجيج الاتفاقات مع العدو، هو السباق الماضي ذاته الذي ما زال مفتوحاً بين مشروعين للمنطقة: إما “شرق كونداليزا رايس” الجديد، بمبناه ومعناه ومغزاه النهائي، وإما “شرق” أبناء المنطقة الحقيقي بأسرهم، ويصدف أن هذا السباق يستعر هذه الأيام لأنها، على ما يبدو، سنة قرارات – لا خيارات كما يقول البعض – ولن تكون نهايته أقل من عملية إعادة تشكيل كاملة للمنطقة في وجه تحدّيات بعضها من عمر المنطقة وبعضها فرضته وتفرضه الأحداث والأحوال الدولية المتغيّرة بتسارع لم نعهده من قبل.
بهذا الإطار، يمكن لنا ملاحظة عودة مفهوم “دكتاتورية الجغرافيا” إلى التداول الفعلي، ولو ضمنياً، دون أن نغفل أن “احترام” البعض المستجدّ له متخطّين بعض اعتباراتهم “العقائدية” السابقة التي أخذتهم بعيداً، هو أمر يصبّ في مصلحتهم ومصلحة بلادهم الحقيقية أولاً، وبالتالي في مصلحة المنطقة بأسرها لاحقاً، لكن المضيّ قدماً، في طريق الإياب هذا، يفرض عليهم أن يعوا نهائياً أن موقعهم، ولو من جانبه المصلحي البحت، هو مع سورية، بمن وما تمثّل، وليس ضدها، فعزّ الشرق، شاء البعض أم أبى، أوّله دمشق، وهذا ليس تعبيراً شعرياً مجرّداً بقدر ما هو حقيقة راسخة أثبتها توالي الأيام والوقائع، سواء للعرب أم لجيرانهم ليكون أمن الجميع، بالمحصلة، خاضعاً لمقتضيات أمنها داخلياً وخارجياً.
هذا درس تاريخي، وهو متاح لمن يقرأ، وما حصل في المنطقة – ليس في سورية فقط بل في بلدانهم أيضاً – في الفترة الماضية كان نتيجة لمحاولات تجاوزه، وبالتالي يجب أن تُبنى السياسات في العام الجديد على الخضوع لأحكامه وتفاصيله، وعلى ذلك سيذكر التاريخ أسماءً ويُهمل أخرى.
وبتحديد أكثر، فإن المستقبل يتوقف على قيام البعض – على صعوبة ذلك – بالخروج من عباءة الدور الوظيفي المرسوم لهم مسبقاً، لأنهم سيكتشفون، وقد اكتشفوا!..، أن هذا الدور لا يحقق لهم القيام بعملية تخادم متبادل كما كانوا يظنون، بل سيمنحهم فقط دور الخادم ولا أكثر من ذلك.
هي إذاً دكتاتورية الجغرافيا، وسورية التي وعت ذلك منذ البداية، اقترحت في مطلع هذا القرن، تطويعها كواحة أمن وسلام وتعاون عبر نظرية البحار الخمسة، وعبر محاولة إيجاد قاسم مشترك آمن بين أبناء المنطقة الأصلاء، لكن بعضهم حوّلها بارتهانه الأبدي وبأطماعه القاتلة إلى ملعب دموي مجنون، ونأمل أن يكون اكتشافه لزيف أوهامه أمراً ثابتاً وراسخاً ومستداماً، لأن الواقع يقول: إما شرق لأبنائه، وإما “طُعمة لكلّ آكل” حسب عمّنا الكبير ابن خلدون، ولا خيارَ آخر سواهما.