تحقيقاتصحيفة البعث

التضخم يقضم القدرة الشرائية لليرة ويعيد توزيع الدخل لمصلحة أصحاب الأصول الثابتة والمضاربين والمحتكرين

تُنبئ القرارات المتسارعة مع بداية العام الجديد بتحديات تلاحق العملية الاقتصادية، والتي على ما يبدو لا زالت تغوص في خضم نفق مظلم بعيد كلّ البعد عن أي حلول مرتقبة وسط هيستريا الأسواق وفوضى سعر الصرف، فيما يحاول البنك المركزي جاهداً الحفاظ على سعر صرف الليرة السورية والتي هبطت في الآونة الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة، لينادي أصحاب الاختصاص بضرورة اتخاذ إجراءات جذرية للوقوف في وجه كابوس التضخم الجاثم على صدور المواطنين والذي لم تستطع جميع زيادات الأجور التصدي للانهيار المعيشي الحاصل اليوم على مرأى من الجميع!.

قرارات خاطئة       

تكهنات وتصريحات ومخاوف وحلول كثيرة، تحدث عنها أهل الاختصاص، تدور في فلك التضخم الحاصل منذ أعوام والمستمر بوتيرة عالية إلى يومنا هذا، يرافقه فقدان الليرة لقيمتها بشكل تدريجي، مرجعين السبب الرئيسي لذلك إلى شلل الحركة الصناعية والتجارية يرافقها فشل الحكومة بتبني سياسات اقتصادية صحيحة تعيد النشاط الاقتصادي إلى مساره السليم، إذ يرى الخبير الاقتصادي علي محمد أن الحرب والحصار والعقوبات الاقتصادية يرافقها بعض القرارات الحكومية كان لها اليد برفع معدلات التضخم، ومنها القرار رقم 1070 الخاص بتمويل المستوردات الذي أُصدِر في العام 2021 ونصّ على تمويل المستوردين لمستورداتهم عن طريق شركات الصرافة المختصّة، وهذا سبّب، بحسب بعض الصناعيين، ضغطاً كبيراً على شركات الصرافة، حيث تمّ تخفيض الكميات المستوردة وانخفض العرض في الأسواق، فارتفعت الأسعار، وقد كان لانخفاض سعر صرف الليرة دور كبير في ارتفاع الأسعار، ولاسيّما بعد التخفيض المتتالي لسعر صرف الليرة الرسمي، والذي ترافق مع ارتفاع الرسوم الجمركية، والتي ارتفعت بنسبة 20٪ منذ بداية العام 2022 وحتى نهايته، إضافة إلى النشرة الجديدة هذا العام والتي رفعتها هي الأخرى بنسبة 33٪، إضافة إلى الظروف العالمية والتضخم العالمي الحاصل جراء الحرب في أوكرانيا وغيرها من الأزمات الاقتصادية العالمية، والتي أثرت بدورها على تكلفة استيراد المواد وارتفاع أسعارها من أرض المنشأ.

غلبة الإنفاق الجاري

ووجد الخبير الاقتصادي أن التضخم وارتفاع الأسعار لم يقضم جزءاً كبيراً من القدرة الشرائية للنقود فحسب، بل أدّى إلى إعادة توزيع الدخل والثروة لمصلحة أصحاب الأصول الثابتة والعقارات والأغنياء والمضاربين والمحتكرين وتجار الحروب، لافتاً إلى أن التمويل بالعجز هو أحد أسباب التضخم فيما لو تمّ ضخ الكتلة النقدية على شكل إنفاق جارٍ، حيث يزداد حجم الإصدار النقدي المطلوب لتمويل العجز ويوجّه للإنفاق الجاري، لكن لو تمّ توجيه التمويل للإنفاق الاستثماري فحينها يكون العائد من التمويل بالعجز ايجابياً للاقتصاد. وقارن الخبير الاقتصادي بين موازنتي العامين الأخيرين، فبالنظر إلى موازنة العام 2023 فهي مماثلة إلى حدّ ما لموازنة 2022 عند تقويمها بالدولار، أما بالليرة السورية، فلا شك تعتبر مرتفعة بنسبة 24٪ وبقيمة 3225 مليار ليرة، إلا أن هذا الارتفاع ذهب بجلّه للإنفاق الجاري، فيما خصّص منه مبلغ ألف مليار ليرة فقط للإنفاق الاستثماري، وهنا نلاحظ غلبة الإنفاق الجاري على الاستثماري في الموازنة العامة للعامين 2022 و2023، حيث بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري 18٪ فقط، وهي نسبة متدنية إلى حدّ ما، حيث تغلب على الموازنة النفقات الجارية.

غياب الحلول

ولم ينفِ محمد أن التضخم في سورية يسجّل أرقاماً مرتفعة عاماً تلو العام، مع غياب بيانات رسمية من المكتب المركزي للإحصاء لأرقام حقيقية سوى رقم التضخم السنوي لجميع السلع في العام 2020 البالغ حينها 163.1% مقارنة مع العام 2019، حيث بلغ التضخم السنوي للفواكه مثلاً حينها 205.4٪، ولـ اللبن والجبن والبيض 199.7٪، والزيوت والدهون 198.0٪، والبقول والخضار 140.5٪، والخبز والحبوب 178٪.

وشكّك الخبير الاقتصادي بوجود حلول في ظل غياب الإنتاج، مستشهداً بمقولة الاقتصادي ميلتون بأن “التضخم هو دائماً وأينما وُجد، ظاهرة نقدية بالنظر إلى أنه ينتجُ عن زيادة في كمية النقود تفوق زيادة الإنتاج، وأنه لا يمكن أن يكون نتيجة لغير ذلك”، وبالتالي ارتفاع معدل التضخم يولّد مستوى من عدم اليقين، وزيادة عدم اليقين تسبّب انخفاض النشاط الاقتصادي الحالي وانخفاض الإنتاج مستقبلاً، والنتيجة النهائية انعكاس ذلك على أسعار السلع والخدمات في ظل محدودية الموارد الفردية وتأثر أغلب السلع بغضّ النظر عن مرونتها السعرية.

تراكم أخطاء

كذلك يرى عامر ديب نائب المدير العام لمؤسّسة رجال الأعمال العرب والسوريين أن ما يحصل اليوم من ارتفاع للأسعار ليس وليد اليوم، بل هو تراكم لأخطاء سنوات تتمحور جميعها حول عدم تنفيذ المرسوم رقم “8” كرؤية اقتصادية، وحصر تطبيقه من قبل وزارة التجارة الداخلية كأداة تهديد، وبالتالي فشلها في ضبط الأسعار ونسب التضخم، لافتاً إلى أنه لو تمّ تطبيق هذا المرسوم بشكله الصحيح عوضاً عن البحث عن رؤية لتعديله كنا وصلنا اليوم إلى مستويات منخفضة في الأسعار. واستهجن نائب مدير مؤسّسة رجال الأعمال استمرارنا باتباع آلية تسعير خاطئة رغم انخفاض أسعار الشحن وأسعار الغذاء العالمية، وهو ما لم ينكره مدير التسعير.

تحرير الصرف

وقدّم ديب حلولاً للخروج من عنق زجاجة التضخم اليوم، تتمثل بتحرير سعر الصرف ضمن القنوات الرسمية، أي السماح بالتعامل بالدولار عن طريق الدفع الإلكتروني، لافتاً إلى أهمية القرار 1701 لكن مع ضرورة اتباع آلية تنفيذ مختلفة له، تبدأ بوجود تراخيص لأكثر من شركتي صرافة لوضع التجار أموالهم فيها لا حصرها بشركتين فقط، إضافة إلى ضرورة الاعتماد على مؤسّسات تنموية اقتصادية خيرية لا تشملها عقوبات وقادرة على العمل التجاري الاقتصادي بكل أريحية داخل سورية وخارجها، مشيراً إلى أن مؤسّسة رجال الأعمال العرب والسوريين تبحث عن إعادة رأس المال المغترب، وتنشيط رأس المال الداخلي وبناء الثقة، وهذا يتمّ بالتعاون مع المؤسّسات الرسمية، ناهيك عن الحاجة اليوم إلى الربط الإلكتروني بحيث نقوم بتحميل الضرائب للتاجر لا المواطن مثلما يحصل دوماً.

ميس بركات