عن شيخ الكتاب والتعليم في حلب
فيصل خرتش
عندما بلغت سن السادسة وضعني أبي عند الكتاب/الشيخ، كما نسميه في مدينتنا، لأتعلم القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وكان مكان الكتاب بعد السوق، فكان علي أن أعبر السوق كل يوم في الصباح أثناء ذهابي وعند الظهر في طريق العودة، فأرى الباعة والمشترين والمتفرجين ومن لفَ لفَهم، كنت بينهم أركب على العصا وأسوق نفسي، وأنا أحمل تحت إبطي (كنيري) الذي به كتاب الله، وأنطلق إلى الكتاب، فأجلس في الرحلات الأمامية، وأفتح المصحف على السورة التي وصلت إليها ثم أقرأ بصوت مسموع.
في العام الذي يليه سجلت في المدرسة التي تقع في السوق أيضاً، وكنت قد تعلمت القراءة والكتابة والتجويد، وأتبارى مع أخي الأكبر مني، الذي كان يسبقني بصفينعلى الكلمات التي فيها همز، في أول الكلمة وفي وسطها وفي آخرها، يعطيني الكلمة، فأكتبها له بسرعة، وكنت دائماَ أحصل على العشرة من عشرة.
كنا ندرس عند المعلمات، في مدرسة ساطع الحصري، ويومها كتبت لنا المعلمة الحروف (داـ دا) على السبورة، وطلبت منا أن نملأ صفحة الدفتر بها، ملأت الصفحة بسرعة، ونظرت إلى الذي بجانبي ماذا يفعل، كان يمسح ويرسم الحروف كبيرة ثم يشطبها ويعيد كتابتها من الأول،فعرفت أنه لا يجيد الكتابة، وطلبت منه أن أكتب له، فأسرع يعطيني الدفتر، أخذته وملأت الصفحة له، غمرته السعادة وابتسم لي شاكراَ، ثم نظرت إلى الثاني كان أيضاَ لا يعرف كيف يكتب، طلبت منه أن يعطيني دفتره فأعطاني إياه وملأت له الصفحة، علم التلاميذ أنني أجيد الكتابة فأسرعوا يعطوني دفاترهم، انتبهت المعلمة إلى الضجة التي أحدثناها، فجاءت تستطلع مايحدث، سألتني عما يجري فقلت لها إنهم لايجيدون الكتابة وأنا أكتب لهم، سألتني وأين تعلمت، قلت لها عند الشيخ، أخذت دفتري وانطلقت، ثم عادت بعد قليل، وطلبت مني أن أذهب معها إلى المديرة، وفحصتني هي الأخرى، ثم طلبت مني أن أحضر والدي غداَ وأحضر إلى المدرسة.
في البيت لم يكن والدي يقتنع بالذهاب إلى المدرسة، لكن أمي أقنعته بالموضوع لصالحي، وفي اليوم التالي دخلت أنا وأبي المدرسة، أنا اصطففت مع التلاميذ وأبي لاذ بالجدار، يلف سيجارة منتظراَ أن يصرخوا له.
اجتمعوا جميعهم، المديرة وبعض المعلمات ورجل أصلع، أظنه كان الموجه التربوي، طلبت مني المديرة أن أقف امام السبورة، ففعلت، وامسكت بقطعة الطباشير، وبدؤوايحدفونني بالكلمات التي تتمتع بالهمز، فهذه تقول: أكتب، تلألأ، وأخرى لجأا، وثالثة، تؤدة، وأنا أكتب على السبورة كل ما ينقلوني إياه، ثم انتهت العملية، بأن تشاورت المديرة مع الرجل الأصلع، وقالت: اذهب إلى الصف الثاني، وقالت لأبي الذي كان متسمراَ في أحد المقاعد، مبروك، لقد أصبح ابنك في الفصل الثاني.
في دارنا التي هي من بقايا بيوت الأرمن، خزن كثيرة، وكان في إحداها عشرة كتب على ما أعتقد، أهمها كتاب كبير اسمه (حياة الحيوان) للدميري، وكتاب (عطيل) لشكسبير، ولا أعرف من أين وصلت هذه الكتب، أوكيف، فأبي كان أمياَ وكذلك أمي، ولكن الذي أعرفه، أنني حين فتحت الخزانة وجدت أن الفئران قد حولتها إلى نتف صغيرة، سددنا الثقوب التي أحدثتها الفئران، وكنسنا ما بقي من الكتب.
انتقلت إلى مدرسة أخرى، يديرها مدير وله معاون ومعلمون، وقد أخذني معلم الصف الخامس إلى شارع المكتبات في منطقة باب النصر، وكنا جمعنا من التلاميذ مبلغاَ من المال، واشترينا به كمية من القصص، عدنا فرحين مسرورين، وضعنا القصص في الخزانة، وسلمني المفتاح، وصرت الآمر الناهي عليها، وقد فكرت أن أعمل واحدة لي مثلها في منزلنا، فبحثت عن خزانة في بيتنا، وعندما وجدتها، نقلت الأشياء التي كانت لأمي، ووضعت المجلات فيها مع كتبي المدرسية، ثم رحت أشتري القصص والمجلات وأضعها فيها، وكنت أتعلق على باب الحافلة (التراموي) وأنزل إلى باب الفرج، وينتهي مشواري عند سينما حلب، ثم أتمشى قليلاَ، وحين أصل إلى الاقبية التي تبيع الكتب المستعملة، انتقي منها ما أشاء ثم أسمع صوت الحافلة وهي قادمة فأجهز نفسي، وذلك بأن أضع المجلات تحت إبطي، وعندما أدرك أنها وصلت إلي، أسرع فأعطيه ثمنها ثمَ أقفز إلي الباب، وأمضي سالما إلى باب الحديد.
كنت أعير المجلات والقصص التي صنفتها في مكتبتي لأولاد الحارةوأقوم بعرضها في طرف من حارتنا وأقوم بتأجيرها، نعم لقد أصبح لدي نواة مكتبة، واكتشفت كنزاَ من المعرفة، تجلَى ذلك في الكتب الموجودة في المركز الثقافي ودار الكتب الوطنية، ثم اكتشفت أن هذه الكتب على البسطات أو العربات، فرحت أجمع النقود لأشتري بها الكتب، وجمعت روايات نجيب محفوظ ويوسف ادريس، ومجلة شعر، وهكذا بدأت بتأسيس المكتبة/ مكتبتي، وانضم إليها ما اشتريته من الكتب المختارة من المعارض، ثم اكتشفت أن هذه الكتب كلها قديمة، وبدأت أشتري الكتب التي تطبع في بيروت، وكتب علم النفس واللغة والروايات، والكتب السياسية، كنت أريدأن اكوَن رأس هذا الذي أمامكم، فأغذيه بالمعرفة من كل نوع، ثمَ تعرفت على غوغولوإليااهرنبورغ ورسول حمزاتوفوبليخانوف، وهلم جراَمن هؤلاء الأدباء، فقد كنا نحمل كتبهم بين الجرائد، ثم نمضي إلى الجامعة، وهكذا رحت أكمل ثقافتي بالكتب الجامعية وبالكتب التي أشتريها إلى أن كونت المكتبة التي تخصني والتي أصبحت تعد بالمئات.
الآن وقد أغلقت معظم المكاتب، وتحوَلت إلى أماكن لبيع الأحذية والموبايلات والألبسة النسائية والرجالية، وأصبحت أشهرها وهي دار الفجر التي كانت تبيع الكتب الماركسية وقد تحوَلت إلى بيع الحلاوة النابلسية، واكتمل بناء المكتبة لدي، وصارت معظم الكتب في حوذتي، حتى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني جلبته إليها، وعندما كنت طالباَ في الدراسات العليا، قسم الدراسات السامية، احتجت إلى كتاب (كتبوا على الطين) لأدواردكييرا، وبحثت عنه في مكتبات حلب، ولم أجده، سافرت إلى دمشق، وعثرت عليه في مكتبة ميسلون، وجلبته معي إلى حلب، وضممته إلى المكتبة.
ينتقم جيل الأبناء من جيل الآباء، ويبيعون المكتبات، وهم يقولون أن سوق الكتب ليست رائجة، وأن الآباء الذين كانوا يهتمون بالكتاب ماتوا، وخرج جيل جديد لم يهمه الكتاب ولا دوره في تثقيف الناس وزيادة معرفتهم، فنشأ جيل لا يهمه سوى الربح المادي، ثم هناك الكتب على الشبكة العنكبوتية، فقد اعتقدوا أنها تغني عن الكتب الورقية، إنني أقول: إن الكتاب الورقي هو المهم، وطالما أن هناك من يهتم بتنمية مكتبته من أمثالي، فإن الكتاب الورقي سيستمر وجوده، كما أن دور النشر موجودة وتطبع الاف الكتب في كل يوم، وسيظل الكتاب يحمل قيمته إلى أبد الآبدين.