ليست مجرد نهاية عام.. إنها نهاية قرن من التبجح الأمريكي
سمر سامي السمارة
هيمنت الحرب في أوكرانيا على أحداث العام الماضي، وكانت الأزمات العالمية الأخرى المتمثلة في ارتفاع تكاليف الطاقة، والمواد الغذائية، هي الأضرار الجانبية الناتجة عن الصراع في أوكرانيا. وأصبح واضحاً، أن الصراع لم يكن مجرد نزاع محلي في وسط أوروبا على أعتاب روسيا، فقد مثّل هذا الصراع مواجهة تاريخية بين الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو العسكري من جهة، وروسيا من الجهة الأخرى.
كانت هذه المواجهة ستحدث منذ وقت طويل، فلطالما حذرت روسيا الولايات المتحدة وشركاءها في حلف الناتو من أن توسع الحلف نحو الحدود الروسية يمثل تهديداً أمنياً استراتيجياً لا يمكن قبوله، لكن تحذيرات موسكو كانت تذهب أدراج الرياح عاماً بعد عام.
وقبل عام تقريباً، عرضت روسيا طريقة دبلوماسية أخيرة لتجنب الصراع، داعيةً إلى معاهدة أمنية شاملة تستند إلى مبدأ “الأمن غير القابل للتجزئة”، والذي سبق قبوله، لكن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين رفضوا هذه المبادرة الدبلوماسية.
حذرت موسكو مراراً وتكراراً من تزايد عسكرة نظام كييف الذي يتبنى النازيين الجدد، وكان لا بد لثماني سنوات من الحرب منخفضة الحدة ضد الناطقين بالروسية، في جنوب شرق أوكرانيا السابق، أن تتوقف. صحيح أن عسكرة أوكرانيا من قبل الناتو وعضوية أوكرانيا في الحلف بمثابة خط أحمر لروسيا، لكن الولايات المتحدة وشركاءها في الناتو اختاروا تجاوز هذا الخط، لذا تعهد الرئيس بوتين باتخاذ إجراءات عسكرية تقنية.،وكانت النتيجة نزع السلاح العسكري لنظام كييف من خلال العملية العسكرية الروسية التي بدأت في 24 شباط العام الماضي.
ما حدث هو شبه حرب بين حلف الناتو وروسيا، فقد غمر الحلف أوكرانيا بترسانته، وباتت تُشن الهجمات في عمق الداخل الروسي، فضلاً عن الحديث الطائش والكريه للسياسيين الغربيين حول الضغط من أجل تغيير النظام في موسكو، حيث كانت أوكرانيا فرصة لإطلاق العنان لخطط إمبريالية طويلة الأمد للولايات المتحدة هدفها العدوان على روسيا، فثروة روسيا الطبيعية غنيمة كبيرة لتلبية طموحات واشنطن في الهيمنة على العالم.
من الجدير بالملاحظة أن الحرب في أوكرانيا أعطت مكاسب جزئية لواشنطن، فقد خضعت أوروبا أكثر من أي وقت مضى للوصاية الأمريكية، كما أفاد بيع الغاز والأسلحة إلى أوروبا الاقتصاد الرأسمالي المتعثر في أمريكا. كما أن العلاقات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والغرب والاتحاد السوفييتي / روسيا تخللتها حلقات من الانفراج.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي، حدث انفراج بعد أن اعترفت الولايات المتحدة أخيراً بسيادة الاتحاد السوفييتي، وقد نجم عن هذا الوفاق تحالف مناسب لهزيمة ألمانيا النازية، ولكن بمجرد هزيمة الرايخ الثالث، انتقلت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا على الفور إلى حقبة جديدة من العداء تُعرف باسم الحرب الباردة.
واستؤنف الانفراج مرة أخرى في فترة رئاسة جون كينيدي في ستينيات القرن الماضي، بسبب الخوف من الدمار المؤكد المتبادل من الحرب النووية، حيث تم التفاوض على عدة معاهدات تاريخية للحد من الأسلحة على مدى العقود التالية.
ومع ذلك، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، سرعان ما تبنت الولايات المتحدة تعجرفاً إمبراطورياً جديداً وازدراءاً للاتحاد الروسي، و ترسخت لديها الفكرة المتعجرفة المتمثلة في القوة العظمى الوحيدة والسيطرة الكاملة على العالم.
على الرغم من الوعود السابقة، فإن الولايات المتحدة ومركبات الناتو التابعة للقوة العسكرية الأمريكية تعدت بلا هوادة على حدود روسيا، وازداد عدد أعضاء الناتو بأكثر من الضعف على مدار 30 عاماً، فضلاً عن التدريبات الحربية التي استهدفت روسيا ومنشآت الصواريخ الجديدة في جميع أنحاء أوروبا، وتمزيق معاهدات الحد من التسلح، والتجنيد المتعمد لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وكلها علامات على شيء واحد أنه كان من المقرر أن يتم غزو روسيا بطريقة لم تتمكن ألمانيا النازية في العقود السابقة من تحقيقها.
لطالما كان نمط الوفاق المتقطع من جانب الولايات المتحدة تجاه موسكو لعبة نفعية ساخرة، فبعد انتهاء الحرب الباردة المفترض، اتخذت واشنطن وجهة نظر منهجية مفادها أن روسيا أصبحت هدفاً يجب إخضاعه، ولكن موسكو أكدت مصالحها الأمنية الإستراتيجية ورفضت الانصياع للطموحات الأمريكية.
في وقت ما، سعت موسكو بجدية لإيجاد حل دبلوماسي دائم لإنهاء الأعمال العدائية، لكن الإدراك الآن هو أن حصيلة واشنطن صفر، والفائز يحصل على كل طموحاته للهيمنة العالمية بدون مسامحة وبدون اكتفاء، لذا لجأت واشنطن ووسائل الإعلام الأمريكية المتبجحة البارعة في النرجسية لإدعاء الفضيلة، فعندما يتحدثون عن “النظام العالمي القائم على القواعد”، فإنهم يقصدون حقاً السيطرة الكاملة تحت هيمنة الولايات المتحدة، والتي يُفترض دائماً أنها حميدة، والنتيجة هي إما أن تكون في خدمة المصالح الإمبريالية الأمريكية، أو أنك عدو يتم استهدافه بالعدوان والتدمير في نهاية المطاف.
لقد كشف إصرار روسيا في الدفاع عن مصالحها الإستراتيجية عن الوجه القبيح للقوة الأمريكية، وهنا يمكن القول إنها ليست مجرد نهاية عام.. إنها نهاية قرن من التبجح الإمبراطوري الأمريكي المفترض، فقد تم الكشف عن ادعاءات القوة الأمريكية “المتعالية” فمطلب واشنطن لبقية العالم هو الإخضاع.
لقد كشف خط روسيا في الرمال فوق أوكرانيا عن العنف الذي ترتكز عليه القوة الأمريكية، هذه القوة غير مستدامة وغير مقبولة في عالم يفترض أنه قائم على ميثاق الأمم المتحدة. لكن في الواقع، يشكل الصراع في أوكرانيا مفترق طرق: إما أن ينشأ عالم متعدد الأقطاب على أساس القانون الدولي والعلاقات العادلة، كما تصورتها الأمم المتحدة وسط رماد الحرب العالمية الثانية، أو أن العالم محكوم عليه بالحريق بسبب الهيمنة الإمبريالية لواشنطن.
تدعو روسيا والصين وعدد متزايد من الدول إلى عالم متعدد الأقطاب متكافئ في العلاقات القائمة على القانون الدولي، فقد أصبحت مواقف الولايات المتحدة مكشوفة أكثر من أي وقت مضى باعتبارها القوة التي يمكن أن تتفوق، والتي تأوي مفاهيم خادعة لامتيازات استثنائية، لكن الولايات المتحدة في ظل ظروفها السياسية السائدة غير قادرة وغير راغبة في الالتزام بعالم متعدد الأقطاب، لأن عالم يتمتع بعلاقات سلمية يشكل لعنة بالنسبة لواشنطن، وبالتالي فإن سجلها في إثارة الحروب خارج من تلقاء نفسها مقارنة بأي دولة أخرى في التاريخ.