رأيصحيفة البعث

استئناف السياسة.. وشتاء واشنطن السوري!

أحمد حسن

ربما يمكن القول باختصار مخلّ، كما هو شأن أي اختصار: إن المنطقة دخلت – مستفيدة من مسارات ودلائل الصدع الأوكراني العالمي – مرحلة جديدة ومتقدّمة في سياق السباق المحموم بين السياسة العاقلة والمغامرات الدمويّة، بعد أن اكتشفت، بدماء أبنائها، خطورة هذه الأخيرة على مستقبل الجميع، أفراداً ودولاً.

لكن يمكن القول أيضاً ودون اختصار: إن واشنطن ما زالت ترفض ذلك بعد أن رفضت سابقاً الإذعان لمخرجات وتوصيات تقرير بيكر – هاميلتون الشهير، بوصفه الدواء الوحيد، والمرّ، الذي ابتكره “عاقلان” من أبنائها في محاولة لإنقاذها من مصير الإمبراطوريات التاريخي.. والمحتوم.

فمرّة جديدة تسعى واشنطن لعرقلة أي خطوة قد يقوم بها أي طرف في سبيل إنهاء الأزمات في العالم، ومنها الأزمة السورية، لسبب واضح يتمثّل بأنها تعيش، و”تتعيّش”، على أزمات الآخرين، وبعد أن “جرّت” أوروبا خلفها إلى المأزق الأوكراني أولاً، ومانعت لاحقاً أيّ حل سلمي له، وهي تحديداً من يقف خلف رفض زيلينسكي للهدنة الأخيرة التي أعلنها بوتين، ها هي اليوم تسعى إلى جرّ كل من باريس وبرلين ولندن للإعلان عن “موقف رباعي يعلن بوضوح الموقف الرافض للتطبيع” من أيّ طرف مع دمشق.

وبالطبع، لن تحتاج واشنطن إلى بذل جهد كبير مع هذه العواصم لجرّها إلى إعلان ما يناقض مصالحها مرة جديدة، فواشنطن التي استفادت مادياً وسياسياً من الحرب الأوكرانية، باعتراف “قادة” أوروبا ذاتهم، تحاول اليوم تثبيت الخريطة السورية الراهنة “التي توفّر لها وجوداً مريحاً في المناطق النفطية السورية”، وبكلمة أكثر وضوحاً تمنحها أولويّة سرقة الموارد السورية، وتوفر لها أيضاً إمكانية أكبر للإمساك بالمنطقة، وتلك حقيقة عبّر عنها سابقاً، ولو بطريقة معكوسة، السيناتور الأمريكي السابق “جون ماكين” خير تعبير، حين حذّر من أن فشل “الإدارة” في سورية “هو جزء من انهيار شامل لمصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”، وهذا ما يقودنا إلى حقيقة ثانية وهي أن الوجود الأمريكي في سورية يخدم أيضاً، وربما أولاً، مصلحة “إسرائيل” باعتبار هذه الأخيرة “الربيبة” الأولى بالرعاية في الاستراتيجية الأمريكية، وخاصة مع وعي واشنطن، والجميع أيضاً، لمحورية الدور السوري في هذه القضية كما في قضايا المنطقة بأسرها.

بهذا المعنى تبدو العرقلة الأمريكية الجديدة – القديمة “مفهومة” باعتبارها دفاعاً عن مشروع بدأت أسُسه بالتصدّع، وأول هذه الأسس وأهمها، أسّ عزل سورية عن محيطها، بيد أنه “الأسّ” الذي اكتشف المشاركون في “تثبيته” والدفاع عنه، ولو متأخرين، أنه سيف ذو حدّين، أي أن عزل سورية يعني – وقد حصل ذلك – عزلهم أيضاً، ليس جغرافياً فقط، بل سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وحضارياً أيضاً.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن لأيّ مراقب الآن إحصاء الخسائر التي مُنيت بها دول المنطقة التي شاركت في العدوان على دمشق، أو تعداد المواقع التي خسرتها أوروبا في المشرق، وربما كان أوضح مثال على هذه الأخيرة خيبات “ماكرون” المتتالية في الشأن اللبناني، كما أن الصين وروسيا -عدوّي الغرب المعلنين- هما تحديداً من يرث مواقعه هنا، والأخطر من ذلك أن جغرافيا أوروبا ذاتها بدأت تتآكل من الخاصرة الأوكرانية، بينما الاهتزازات السياسية الارتدادية للسير الأعمى خلف واشنطن بدأت تظهر بوضوح كشرخ هائل في البنية الديمغرافية والاقتصادية للعواصم الآمنة سابقاً.

هذه حقائق دامغة، لكن ما يعنينا هنا أن واشنطن بدأت محاولة جديدة لعرقلة ما هو قادم، والمؤشرات كلها تقول: إن ما تحويه جعبتها بدأ بالتناقص، وأوراقها بدأت بالاحتراق – ما تعرّضت له ورقة “الكيماوي” في الأمم المتحدة من زيادة عدد الرافضين لتسييسها مثالاً مهمّاً- وهو ما تحاول تعويضه بأي طريقة ممكنة، وهنا نفهم مثلاً عودة بعض “الحكومات الوظيفية” للحديث عن “موقف عربي مشترك يحدّد المطالب العربية مقابل التطبيع، دون أن يكون مجانياً”، كما نفهم أيضاً عودة “ميليشيا قسد” للتلويح بإعادة ورقة “داعش” إلى الحياة.

بيد أن ذلك كله، على خطورته وضرورة التنبّه له، لا يعني الكثير، فما كُتب قد كُتب، ولأنه سُطّر بدماء أهل المنطقة فهو القادم.. والباقي أيضاً.