“ياللي عم تتدّرج.. وقف وتفرّج”
نجوى صليبه
ما إن نصل إلى البرامكة ونترجلّ من الحافلة، حتّى يستقبلنا الباعة بحلو الكلام وطيبه، بقديمه وجديده، بالمكرّر والمرتجل منه، معتمدين القافية والنّغم، ومركّزين على روح الدّعابة والمرح، ومعلنين عن حربهم الدّعائية والتّسويقية التي تستمر من لحظة “فرش بسطاتهم” إلى لحظة “ضبّها” ورفع راية التّعب والاكتفاء.
“مطر مطر.. مكياجك في خطر”، عبارة صدح بها أحد باعة المظلّات منذ سنوات قليلة، أثناء مروري بجانبه في نهار شتويّ بامتياز، مع العلم أّني لست ممّن يتبرّجن كثيراً أو يضعن المكياج بكثافة، لكنّه وبحنكته “التّجارية” وبديهته وذكائه استطاع جذب انتباهي كما مارّين كثر هاربين من مطر لم يمهّد لهطوله غيم أو ريح، ومثل غيري لم أكن مستعدّة له، فلا مظلّة تظللني ولا قبعة تغطي رأسي.. اشتريت مظلّتي وانقضى ذاك اليوم، ومعه انقضت الأيّام والسّنوات، لكن بقيت ذكرى غائصة حتّى انتشلها نداء جديد استوقفني منذ أيّام وأنا أخطو الطّريق ذاته إلى سوق الحميدية، تحديداً قبيل النّفق الذي أمام السّوق، لكنّه هذه المرّة يصدح من مكبّرات الصّوت “ياللي عم تتدرج.. وقف وتفرّج”، نداء من أثره الجميل على النّفس والنّفسية، شعرت وكأنّه يقول “تعال اضحك معنا” أو “اضحك تضحك لك الدّنيا”.
نداءات كثيرة يصنّفها البعض تراثاً شعبياً، والبعض الآخر فنّاً من فنون الأدب الشّعبي القولي، ويُذكرها كتّاب السّيناريو في الدّراما التّلفزيونية، تحديداً أعمال البيئة، ولاسيّما الشّامية، فمن منّا ينسى نداء “أصابيع البوبو يا خيار” الذي اشتُهر فيه الممثل محمد العقّاد في مسلسل “صح النوم”، ومن منّا لم يتوقّف عند النّداء الذي اشتُهر فيه الممثّل نزار أبو حجر في مسلسل “باب الحارة”، على سبيل المثال لا الحصر، “بليلة بلبلوكي وبالسّوق باعوكي، بليلة بلبلوكي بالخل طبخوك بالصّحن حطوك وشربوا مرقتك وأكلوك سبع جواري خدموك قولي لأمك وأبوك يشترولك بليلة”.
يعتمد بعض الباعة المتجوّلين أو أصحاب الـ”بسطات” على نداءات تتناسب والمنتج الذي يروّجون له، فنسمعهم في مواسم نضوج الفواكه والخضراوات يتغزّلون بالفاكهة وبطعمها وشكلها ومنبتها، كقولهم “مال الزبداني، للمعقود يا سفرجل، هدايا لحماتك، كلّ عضّة بغصّة يا سفرجل، بلدي هالسّفرجل الياكل منها يدعيلي”، وقولهم “سبحان الخلاّق يا درّاق”، بينما يقتبس بعضهم من الأغاني بعض العبارات ليؤلّف نداءه الخاصّ فيه، ولأنّ هذه النّداءات ليست حكراً على منطقة أو بلد بعينه، نستشهد بنداء بائع تفّاح مصري يقول: “يا أحمر يا تفّاح.. يا جفنه علّم الغزل.. يا خدّه علّم الخجل.. يا سفّاح يا تفّاح”، ولابدّ من التّنويه هنا بأنّ هناك أغنيات خالدة بُنيت على هذه النّداءات، كالتي لحّنها الموسيقار عبد الوهّاب وغنّتها شادية “توب الفرح يا توب” والتي أساسها نداء يقول “توم الخزين يا توم”، ونذكر أيضاً أغنية “يا بلح زغلول يا بلح” التي كتب كلماتها ولحّنها سيد درويش وغنّتها نعيمة المصرية وغيرها كثيرات مع تغيّر في الكلمات واللحن.
إضافةً إلى ذلك، يلجأ بعض الباعة إلى الشّعر لينكّهوا نداءاتهم فيها، ولا بدّ هنا من أن أذكّر ذاك البائع المتجوّل الذي كان يزور قريتي كلّ فترة، وكان يحفظ من الشّعر ما لا يحفظه كثيرٌ من شعراء اليوم، وأذكر كيف كنّا صغاراً نجتمع حوله مذهولين من فصاحة لسانه وشعر قوله وقصيد غنائه، ليبدأ بعدها بنثر ما في جعبته من أمشاط وملابس وأدوات منزلية وألعاب وعلكة.
إذاً.. نداءات الباعة تقليد دارج أو ربّما عادة دارجة منتشرة في كلّ مكان وزمان، لكن من الصّعب الحديث عنها تاريخياً ها هنا، ومن الصّعب أيضاً تحديد فيما إذا كانت تراثاً شعبياً أو أدباً شعبياً قولياً، بل ومن الصّعب نسبها إلى قائلها الأصلي، لكن من السّهل علينا ها هنا أن نختم بنداء مصري يراهن على اللغة جناسها وطباقها يقول: “معانا اللبان واللي ما بانشي”، ونداء آخر يركّز على المنتج أو السّلعة ذاتها، يقول: “أنا معايا الفَلاَّية.. تطلَّع القَملاية.. دكر وأنتاية”!.