مجلة البعث الأسبوعية

أزمة النظام السياسي والاقتصادي في بريطانيا

 البعث الأسبوعية- ريا خوري

لا تزال بريطانيا تعاني من العديد من الأزمات البنيوية والمشاكل السياسية الداخلية التي أثّرت على النظام السياسي البريطاني، فقد تفاقمت تلك الأزمات ما يقرب من عشر سنوات مضت جرت  في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية  وسياسية  مما ينبئ  بتغير مستقبل تلك الدولة تغييراً جذرياً وأساسياً في بنية السياسة البريطانية.

سنوات عديدة مرّت على الأزمات والمعضلات الفكرية الكبرى في محاولات متواصلة  من الحكومات السياسية البريطانية المتعاقبة، سواءً أكانت تنتمي لحزب المحافظين  أم حزب العمال، مع نظرية الأنساق المعقدة والمتشابكة ، وهي سلوك فلسفي سياسي  في توظيف منطق القلة والنخبة لقيادة الحياة العامة، والارتقاء بحياة الشعب البريطاني  إلى الأفضل في سياق دوره المجتمعي.

هذه الإيديولوجية التي وصفت بأنها شمولية ليبرالية نتج عنها هذا الوضع الصعب والبائس الذي تعيشه بريطانيا في هذه الفترة، وهي أسوأ مرحلة في تاريخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث بلغ حجم ديونها الداخلية والخارجية خلال العام الماضي ٢٠٢٢ نحو  ٢ تريليون جنيه إسترليني.

كما تجمعت  عدة عوامل دفعت بأزمة الديون البريطانية  إلى هذا المستوى القياسي غير المسبوق، أولها: الأزمة الاقتصادية الحادة، التي ألحقت أضراراً جسيمة بالاقتصاد البريطاني الذي عانى كثيراً في المرحلة الماضية. وعلى الرغم من التعافي البطيء من تلك الأزمات، إلّا أن بريطانيا لم تمضي عليها بضع سنوات حتى شهدت أزمة أخرى أشد حدّةً  وسوءاً،  ألا وهي أزمة خروجها من الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء “بريكست” الذي جرى في ٢٣ حزيران عام ٢٠١٦  في بريطانيا.

ربما كان استفتاء “البريكست”  مصلحة قومية للشعب البريطاني،  حيث إنَّ الاندماج الأوروبي أفسح المجال لهجرة واسعة للكثير من سكان دول أوروبا الشرقية الفقيرة إلى  المملكة المتحدة، ما خلق حالة شعبية بريطانية رافضة لعملية الهجرات المتتالية التي لا يمكن منعها إلا بالابتعاد عن الدول الأوروبية وتحديداً دول الاتحاد الأوروبي، فكان استفتاء “البريكست” خياراً لبقاء “الأمة”  نقية العنصر، لكنه كان خياراً سيئاً جداً بالنسبة للاقتصاد، لأنه تسبّب في زيادة الضعف  والتراجع الاقتصادي، خاصةً أن الاقتصاد البريطاني يعتمد أساساً على الخدمات، وليس على التصنيع والإنتاج الصناعي، حيث كانت العاصمة لندن مقراً لصناعة الخدمات المالية في كامل قارة أوروبا، وتتخذ منها بنوك عالمية متعدّدة وكثيرة  فيها عدد كبير من المقرات، وكان هذا القطاع يدّر ضرائب كبيرة جداً للخزانة البريطانية.

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تأثرت البنوك المركزية وشركات الاستثمار البريطانية الكبيرة والمتوسطة بشكلٍ كبير وسلبي من خلال القيود والقوانين والقرارات  الجديدة على النشاط التجاري غير المحدود، وتراجعت معدلات الضرائب وأصول الأموال  بشكلٍ كبير، كما فقد الكثير من الإداريين والموظفين وظائفهم بسبب تراجع الأعمال وضعف أدائها، وجاءت جائحة كوفيد ١٩ لتزيد من التراجع الاقتصادي وحالة الضعف التي عانى منها بسبب توقف مختلف الأعمال من جراء الحظر، وبلغ حجم الاقتراض  المالي خلال العام الماضي  ٢٠٢٢ نحو مائة وخمسون مليار جنيه استرليني، ما تسبب في ارتفاع حجم الديون على خزانة الدولة المركزية.

هذا الواقع انعكس بشكل كبير على الوضع الاقتصادي المتردي الذي ارتدّ بدوره على الوضع السياسي، حيث عجز رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب المحافظين بوريس جونسون عن التصدي للأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وارتفاع تكاليف المعيشة اليومية للمواطن البريطاني بشكلٍ غير مسبوق في تاريخ المملكة، ما اضطره إلى الاستقالة “القسرية”، فاختار حزب المحافظين وزيرة الخارجية البريطانية  ليز تراس لشغل منصب رئيس حزب المحافظين ورئيسة وزراء بريطانيا، وهي التي كانت  معبأة بالآمال  في تحقيق الأهداف والمرامي المتمثلة في القضاء على التضخم النقدي، وحالة التأزم الاقتصادي، وتصحيح الوضع الاقتصادي المتردي .

لكن ما إن تولت ليز تراس منصبها، وبدأت بتطبيق سياستها الاقتصادية حتى بان فشلها، ولم تتمكن من إيجاد حلول للوضع الاقتصادي المتأزم، وحالة الصراع بين الشركات وقوى الاقتصاد البريطاني، وأغرقت البلاد في أسابيع معدودة من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فأعلنت استقالتها مهزومة، واختار حزب المحافظين  وزير الخزانة ريشي سوناك البريطاني من أصول هندية زعيماً لحزب المحافظين منذ ٢٤ تشرين الأول ٢٠٢٢  والذي شغل منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة منذ ٢٥ تشرين الأول ٢٠٢٢، بعد أن كان يشغل قبل ذلك منصب وزير الخزانة.

وفور توليه المنصب استقرت الأسواق، لكن المشكلة التي واجهها كل من رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، وليز تراس، هي مشكلة إيجاد دخول جديدة إلى الخزانة المالية، والتي سوف تستمر في عهد ريشي سوناك، الذي سيعمد، على الأرجح، من أجل توفير السيولة المالية، إلى مراجعة الإنفاق في مختلف المجالات في بريطانيا  بما في ذلك التعليم  والصحة  والرعاية الاجتماعية والمعاشات التقاعدية والدفاع، حبث ستكون القضية الرئيسية في بريطانيا هي تحديد التوازن بين الزيادات الضريبية المالية وخفض الإنفاق العام.

لكن، دون أدنى شك، ستكون هناك معارضة سياسية من كبار الشركات والمستثمرين لأيّة تخفيضات في الإنفاق العام، وهذا الأمر نفسه ينطبق على الزيادات الضريبية على التجارة والاقتصاد بشكلٍ عام. ربما يكون هذا هو الخيار الوحيد المتوفر الآن لدى القادة المحافظين، الأمر الذي قد يجعل حكومة ريشي سوناك محكومة بالفشل هي أيضاً.

من  الواضح أن المملكة المتحدة اليوم تقف أمام تحدٍ تاريخي كبير، أو ربما هي أمام واقع مفصلي جديد في نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالمشكلة الاقتصادية الأساسية  التي تعاني منها هي مشكلة بنيوية وجوهرية، وليست مشكلة عابرة على الإطلاق، وأية اقتراحات جديدة يمكن تقديمها في المستقبل ضمن هذا السياق لن تؤدي إلى معالجة تلك المشكلات المتفاقمة .