مجلة البعث الأسبوعية

مالك الحزين يكتب حياة المهمشين ومعاناتهم

البعث الأسبوعية- سلوى عباس

منذ أيام شاهدت فيلم “الكيت كات” على إحدى المحطات، وقد حرضت أحداثه رغبتي بإعادة قراءة الرواية التي اقتبس عنها الفيلم وهي “مالك الحزين” للروائي الراحل إبراهيم أصلان الذي حقق مجموعة من الأعمال الأدبية تراوحت بين القصة والرواية، والتي خلّدته أديباً من الطراز الرفيع، وقد كان يميل إلى القصة أكثر من الرواية، فهو حسب ما كان يقول أنه عندما يكتب رواية يكتبها بمزاج كاتب القصة، وقد اتجه إلى الرواية بمحض المصادفة، إذ عندما علم الأديب نجيب محفوظ بظروف عمل أصلان في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية كتب له تزكية للحصول على منحة تفرغ للكتابة قال فيها: “أصلان فنان نابه، مؤلفاته تتميز بموهبة فريدة وفذة ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يزهر ويثمر”، وكان فرح أصلان بالمنحة كبيراً حيث سيتفرغ لكتابة مجموعة قصصية، لكنه اكتشف أن شرط الحصول على منحة التفرغ هو كتابة رواية أو بحث لا مجموعة قصصية، فقرر عندئذ كتابة رواية وكانت أولى نتاجاته “مالك الحزين”.

كان أصلان يكتب في العمق وبإحساس رهيف يجسّد هموم البشر ومعاناتهم، وقد أبدع في التعبير عن الكثير من القضايا الاجتماعية التي تؤرق الناس بعيداً عن التكلف والمباهاة حتى أنه لم يكن يعتبر نفسه أديباً حيث ردد في أكثر من مناسبة: “على الرغم من انشغالي بقضية الكتابة والقراءة طوال حياتي، لم أنظر لنفسي بوصفي كاتباً أبداً، أعتبر نفسي عاشقاً للكتابة وهاوياً لها، ولست كاتباً محترفاً مفروضاً عليه أن يكتب، ولديّ يقين بأنه إذا لم يكن ما أكتبه يلبي احتياجاً داخلياً لا يمكن تفاديه، فإنه من الصعب أن يلبي احتياجاً لدى القارئ، وعشقي للكتابة أكبر من عشقي لاحترافها”.

عندما قُدمت روايته “مالك الحزين” سينمائياً لم يخف من نتائج هذه الخطوة لإدراكه أن السينما كوسيط أدبي لها وقعها وتأثيرها المهم ومجال آخر في إيصال رسالته للناس الذين يكتب لأجلهم ولو أنه كما كثيرون من الروائيين يقر بأن النص الأدبي يفقد قيمته الأدبية بتحويله إلى سيناريو سواء في التلفزيون أو السينما فيقول: “السينما محكومة باعتبارات لانجدها في الرواية، لذا يجب أن أنظر إلى أعمالي التي تنقل إلى السينما بمنطق حيادي لا يشوبه التعصب لقدسية النص الأدبي، كما أن اللغة ليست أفضل الوسائل للتعبير عما هو مرئي، لأن هناك وسائط أخرى تغني المجال التعبيري لأي كاتب، وخلال مسيرتي تعرفت إلى وسائط تعبيرية أخرى تغني اللغة كوسيط مباشر، وأسعى في تجربتي إلى انتقاء عنصر القراءة ليتعامل القارئ مع مشهد بصري زاخر بتفاصيل الحياة، ونصوصي كلها سعي للكشف عن هذه التفاصيل”.

الكاتب من وجه نظر أصلان هو ذلك الشاهد الأمين الذي يراقب الإنسان ويتأمله، وليس ذاك الذي يطلق أحكاماً عليه، بل لابد له أن يتفاعل معه، وهكذا كانت قراءة المكان ركناً أساسياً وطقساً من طقوس كتابته للإنسان وخطوة في اتجاهه، فلم يكتب دون تصور عن جغرافيا المكان الذي تدور فيه الأحداث لأنه كان يسعى دائماً لتجسيد حالة متكئاً على المكان كتجربة حية تتيح للكاتب أن ينمو وتنمو شخوصه معها.

ولأن السخرية ملمح أساسي في أعماله التي كان يوردها بشكل موارب وغير صريح في بداياته الأولى، نرى جرعتها أكبر في أعماله الأخيرة، وكان يعلّق على ذلك بالقول: “السخرية وجه آخر للأسى، وهي نقيضة لقوى أخرى عكسها، وهي جزء من تكوين الكاتب ولا يمكن افتعالها، وأعترف أنني في المراحل الأولى كنت أخشى من الانغماس فيها، كان لديّ ميل طبيعي للسخرية فهي عامل فعال في النص وتحتاج إلى خبرة لأنها لصيقة أكثر بما هو إنساني، وهذا يحتاج إلى نوع من الدربة، وأعتقد أنني وفقت إلى حد ما بربط السخرية بما هو إنساني في أعمالي، وما أسعى إليه من خلالها ليس الإضحاك الذي يمكن أن يفوز به بهلوان أو مهرج، ولكنه نوع من الغبطة الإنسانية”.

رحل إبراهيم أصلان في عام 2012 بعد أن أعطى الأدب والثقافة نداوة روحه وعمره، وشكل أدبه شجرة وارفة الحياة، وحالة عطاء لا تنضب، فكانت الكلمة رئته التي يتنفس منها الحياة.