واشنطن مستعدّة للمغامرة بآخر أوكراني.. والمقامرة بآخر يورو
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:
في كل يوم تؤكد أمريكا جنوحها نحو صبّ الزيت على نار الحرب التي أشعلتها في أوكرانيا، وآخر مظاهر تلك التأكيدات كان من خلال رفضهم الهدنة التي أعلنت عنها روسيا من طرف واحد، بل على العكس اعتبرتها واشنطن ومن يتبعها من القوى الأطلسية فرصة سانحة لزعمائهم لإظهار المزيد من العنجهية والتصعيد دون أي حسابٍ لخط الرجعة أو إبقاء للأمل في التفاوض، وذلك من خلال تصريحاتهم حول زيادة الدعم لنظام كييف، فأمريكا أعلنت بالتزامن مع الهدنة حزمةً جديدة من المساعدات العسكرية المتمثلة بإرسال مركبات برادلي القتالية، وتسريع الإمداد بالباتريوت، كما اتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يرمي من وراء هذه الهدنة إلى كسب الوقت، ليؤيّده أيضاً المستشار الألماني أولاف شولتس الذي اتفق معه على إرسال مركبات مدرّعة إلى القوات الأوكرانية، لينطق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن بلاده ستواصل دعم أوكرانيا عسكرياً، متناسياً حجم الغبن الذي أشار إليه سابقاً في طريقة بيع الغاز الأمريكي لأوروبا بأربعة أضعاف ثمنه.
إن هذه المواقف الشيزوفرينية لزعماء ورؤوس الغرب ليست بجديدة، فهم لا يتحدّثون عن مصالح شعوبهم، بل يمثلون مافياتٍ تعيش على المضاربات وبيع السلاح وخطف الأرواح وتقديس قيمة الدولار، وخاصةً بعد أن كشفت التطورات العالمية مؤخراً أنه ذو قيمة فقاعية لا ترتبط بالاقتصاد الفعلي، وهم يعملون جاهدين على سبيل تحقيق ذلك لـ”القضاء على روسيا ومن بعدها الصين” مهما كلّفهم ذلك من الخسائر البشرية والاقتصادية، معتبرين ما يقومون به الآن استثماراً طويل الأمد تتم إدارته بعقلية الاستعمار القديم رغم فشلها تاريخياً، ومصمّمين على تحويل حتى المجتمعات التي كانت سلميةً إلى هجومية، وآخرها ما رأيناه من تسليح لألمانيا وتغيير للاستراتيجية الدفاعية ومضاعفة ميزانية التسلّح في اليابان، ومحاولات جرّ الدول الاسكندنافية للانضمام إلى “الناتو” وإلغاء حياديتها السياسية بشكل كامل، ناهيك عن محاولات حثيثة لغمس دول البلطيق الفقيرة في صراعاتٍ مستقبلية قد تنهيها، لأن “الأطلسي” يبحث عن نقاط متقدّمة له يستخدمها كحطب لنار صراعه مع روسيا.
بالمقابل نرى في الشارع الأوروبي أصوات الاحتجاجات تتعالى أكثر فأكثر، فبعد أن كانت في جلّها تشكو سوء المعيشة وغلاء الطاقة، بدأت الآن تتحوّل بصورة أكبر نحو المطالبة الصريحة بإيقاف الحرب والتحرّر من قبضة “الناتو” على القرار الأوروبي الخارجي، وبعد أن كانت من قبل نقابات النقل توسّعت لتشمل أطيافاً جديدة في مقدّمها صنّاع الخبز الذين حذروا من أزماتٍ ستمنع وصول الخبز إلى أسواق كبريات الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، والمزارعون الذين حذّروا عبر احتجاجاتهم من تدهور الزراعة نتيجة انقطاع سلاسل التوريد ونقص الأسمدة، والأطباء الذين حذّروا من إهمال طبي ودوائي شديد سيعصف قريباً بالقطاع الصحي في أوروبا، في وقت يسير فيه ساسة القارة العجوز خلف هدي سياسة واشنطن الرعناء، ويصمّون آذانهم عن المطالب، معبّرين عن مدى أوليغارشيتهم وانفصالهم عن متطلبات ومناشدات شعوبهم بما فيها النخب.
أما على المقلب الروسي، فإن المزاعم حول وجود نيّات معيّنة لموسكو من الهدنة غير صحيحة، فعلى سبيل المثال مدة الهدنة 36 ساعة، وهي مدة لا تمثل فرصة لموسكو لكسب أي وقت سواء لراحة القوات أم ترميم صفوف الجيش أو إمداده على خط النار، وبالمحصلة لن تشكّل فرقاً بالنسبة للجيش الروسي عسكرياً على الإطلاق أو تخدمه في قلب موازين المعركة، لكن هذه الهدنة بالمقابل تشكّل رسالةً واضحة من موسكو تدعو إلى احترام القيم الدينية والإنسانية التي يؤمن بها جزء كبير من شعب روسيا وأوكرانيا على حدٍ سواء، وإدخالها ضمن المبادرات المعزّزة للسلم علها تخلق دوراً محورياً للفاتيكان في استخدام سلطته لتحريك ضمائر ساسة الغرب وتوجيههم نحو سلوك درب السلام بدلاً من الدروب الحمراء التي تخالف كل القيم الإنسانية، وعلى الرغم من الإفشال الغربي للهدنة الذي كان متوقعاً من موسكو فإن روسيا كسبت إعلامياً من خلال هذا الإعلان، حيث صبّت نتيجته في رصيد صدقيتها وتأكيد مشروعية مطالبها، مع التأكيد أن الخلل المؤدّي لإفشال أدنى فرصة للتفاوض سببه الغرب لا هي، كما أنه يحمل في طياته الرغبة الأطلسية في المزيد من التصعيد دون شكّ.
وبالعودة إلى المشهد الأوروبي فإن شعوبه المغيّبة تكتشف الآن حجم المفارقة بين القرار في دولها، والقرار في دول جنوب الكرة الأرضية الذين آثروا الاحتفاظ باستقلال دولهم عن الإرادة الأمريكية والأطلسية مهما كان الثمن، وتجمّعوا حول القوى الصاعدة في العالم الجديد، وعلى رأسها روسيا، كما أدركوا مدى حجم أمان الطاقة والغذاء والتحالفات الاقتصادية الكبرى التي ستنعم بها تلك الدول ومشاريعها الساعية لانتشال شعوبها من الفقر.
ولكن للأسف فإن عضّ الأصابع لم ينجح حتى اللحظة، فأمريكا المتحكمة بالقرار الأوروبي ما زالت المستفيدة الوحيدة من الحرب على اعتبار أن الخسائر البشرية أوكرانية والمبالغ المالية أوروبية، كما أنها في الوقت ذاته تعمل على سحب المصانع الأوروبية الكبرى إلى أمريكا للاستفادة من ذلك في حربها الاقتصادية التي تخوضها ضدّ النمو الهائل للصين، وحتى لو كان ذلك على حساب تفكّك الاتحاد الأوروبي ودمار الصناعة والاقتصاد في دوله التي بدأت منشآتها الصناعية، الصغيرة والمتوسطة بالإقفال بالمئات، كما بدأت الكبيرة منها إجراءات النقل الفعلي نحو الولايات المتحدة للاستفادة من حزم الدعم التي أّقرّت، وضمانات قانون مكافحة التضخم.
ومع كل ما ذُكر من تفاقمات في المشهد الجنوني الأمريكي، لا بد من صحوةٍ تبدأ من الشارع الأوروبي تطرد الزعماء الفاسدين، وتنقذ ما تبقى من أموالهم واقتصادهم، وتعيد لهم أمن الطاقة والأمن الغذائي والخدمات الصحية، وخاصةً لأولئك المتقاعدين الذين باتوا اليوم مخيّرين بين شراء حوامل الطاقة لينعموا بالدفء أو الحصول على قوت يومهم، وكل هذا لن يتحقق إلا بوقف الحروب والدمار، وهذه الخطوات ليست بعيدة عن الشعوب الأوروبية مهما أخّرتها “إمبراطوريات الإعلام الغربي” المضللة للرأي العام، والحركات الفاشية المتأّصلة وما يتصل بها من نزعات نازية.