الصين.. من الاقتصاد إلى البحث العلمي.. هل تنقلب الموازين؟
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
تشير المعطيات والمؤشرات العالمية المتعلقة بالتقدم العالمي إلى أن الصين تمتلك الآن أوراقاً علمية عالية الجودة متفوقة على كل دول العالم، الأمر الذي يثير قلق واشنطن. فمن خلال مقياس واحد على الأقل، تقود الصين الآن العالم في إنتاج علوم عالية الجودة، حيث يُظهر بحث أجراه أحد خبراء الاقتصاد أن الباحثين الصينيين ينشرون الآن أكثر من 1٪ من الأوراق العلمية الأولى في العالم.
يشرح البحث كيف تعمل الاستثمارات الحكومية في العلوم والتكنولوجيا والابتكار على تحسين الرفاهية الاجتماعية، وكيف إذا كان من الصعب إلى حد ما تحديد البراعة العلمية لدولة ما، فإن المبالغ التي يتم إنفاقها على البحث العلمي وعدد المقالات العلمية المنشورة ونوعية هذه المقالات تعد مؤشرات جيدة، والصين ليست الدولة الوحيدة التي حسنت قدراتها العلمية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، لكن صعود الصين كان شديد السرعة، ولهذا السبب يشعر الخبراء السياسيون والمسؤولون الحكوميون في الولايات المتحدة بالقلق إزاء الكيفية التي ستؤدي بها السيادة العلمية للصين إلى تغيير ميزان القوى العالمي.
حقيقة، يعتبر صعود الصين في الآونة الأخيرة هو نتيجة سنوات من سياسة الحكومة لتكون الدولة الأولى عالمياً في مجال العلوم والتكنولوجيا، لذلك اتخذت الدولة خطوات واضحة للوصول إلى ما هي عليه اليوم.
النمو على مدى عقود
في عام 1977، أدخل الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ التحديثات الأربعة، والتي كان أحدها تعزيز القطاع العلمي والتقدم التكنولوجي في الصين. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، استثمرت الصين أموالاً لتطوير قدرات البحث المحلية، وإرسال الطلاب والباحثين للدراسة في الخارج، وتشجيع الشركات الصينية على التحول إلى تصنيع المنتجات عالية التقنية.و منذ عام 2000، أرسلت الصين حوالي 5.2 مليون طالب وباحث للدراسة في الخارج، الغالبية منهم درسوا العلوم أو الهندسة، بقي العديد من هؤلاء الطلاب في البلدان التي درسوا فيها، فيما عاد عدد كبير منهم إلى الصين للعمل في مختبرات وشركات عالية التقنية ذات موارد جيدة. واليوم، تحتل الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في حجم الأموال التي تنفقها على العلوم والتكنولوجيا، وتنتج الجامعات الصينية الآن أكبر عدد من شهادات الدكتوراه الهندسية في العالم، وتحسنت جودة الجامعات الصينية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
إنتاج المزيد من العلوم
بفضل كل هذه الاستثمارات والقوى العاملة المتنامية والماهرة، زاد الإنتاج العلمي للصين -الذي يقاس بالعدد الإجمالي للأوراق المنشورة -بشكل مطرد على مر السنين، ففي عام 2017، نشر العلماء الصينيون أوراقاً علمية أكثر مما نشره الباحثون الأمريكيون. ولكن لسنوات عديدة، كان الباحثون الغربيون يحاربون الأبحاث الصينية وينظرون إليها على أنها منخفضة الجودة، وغالباً ما تكون مجرد تقليد للبحوث الأمريكية والأوروبية، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وعام 2010، لم يحظ الكثير من الأعمال التي نشأت في الصين باهتمام كبير من المجتمع العلمي العالمي، ولكن استمرت الصين في الاستثمار في العلوم، وكان الانفجار في كمية الأبحاث مصحوباً بتحسن في الجودة.
ولتحديد القوة العلمية للصين، لا بد من النظر إلى الاقتباس، أي عندما تتم الإشارة إلى ورقة أكاديمية، أو الاستشهاد بها، في ورقة أخرى، فكلما تم الاستشهاد بمقال، زادت جودة العمل وزاد تأثيره. وبالتالي، وفقاً لهذا المنطق، يجب أن تمثل 1٪ من الأوراق البحثية التي يتم الاستشهاد بها، أعلى مستوى في العلوم عالية الجودة. وعند إحصاء عدد الأوراق البحثية التي نشرتها دولة ما والتي كانت أعلى 1٪ من العلوم، مقاسة بعدد الاستشهادات في مختلف التخصصات، من عام 2015 إلى عام 2019، مع المقارنة مع دول مختلفة، كانت النتيجة مذهلة بمعرفة أنه في عام 2019، نشر المؤلفون الصينيون نسبة أكبر من المقالات الأكثر نفوذاً، حيث كان لدى الصين 8422 مقالة في الفئة الأولى، في حين أن الولايات المتحدة لديها 7959 مقالة، والاتحاد الأوروبي 6074.
وفي عام 2022، نشر باحثون صينيون ثلاثة أضعاف عدد الأوراق البحثية حول الذكاء الاصطناعي مقارنة بما نشره الباحثون الأمريكيون. وعند إحصاء أفضل 1٪ من الأبحاث التي تم الاستشهاد بها حول الذكاء الاصطناعي، فاق عدد المقالات الصينية عدد المقالات الأمريكية بنسبة 2 إلى 1. كما يمكن رؤية أنماط مماثلة مع تبوء الصين المرتبة الأولى في المائة من المقالات الأكثر الاستشهاد بها في علوم النانو والكيمياء والنقل. وفي هذا السياق أيضاً، كشف البحث الآنف الذكر أن البحث الصيني كان مبتكراً ومبدعاً بشكل مدهش، وتفوق على الباحثين الغربيين. وكلما زاد تنوع البحث المشار إليه في مقال واحد، كلما اعتبر العمل متعدد التخصصات ومبتكراً، وبالتالي يعد البحث الصيني مبتكراً مثل الأبحاث الأخرى ذات الأداء المتميز.
تشير هذه الإجراءات مجتمعة إلى أن الصين اليوم هي قوة علمية على نفس مستوى الولايات المتحدة وأوروبا، من حيث الكمية والنوعية. ولمواجهة هذه القوة العلمية، وقع بادين في 9 آب 2022، على قانون “الرقائق الالكترونية والعلوم” لدعم نمو شركات البحث والتكنولوجيا الأمريكية لمواجهة النمو العلمي في الصين.
خوف أم تعاون
ترتبط القدرة العلمية ارتباطاً وثيقاً بالقوة العسكرية والاقتصادية، وبسبب هذه العلاقة، أعرب العديد من الأمريكيين، من السياسيين إلى خبراء الاقتصاد، عن قلقهم بشأن ما اعتبروه التهديد الذي يمثله صعود الصين العلمي على الولايات المتحدة، لذلك اتخذت الادارة الأمريكية خطوات لإبطاء النمو الصيني. ولعل أقرب مثال على ذلك هو قانون “الرقائق والعلوم” الأخير لعام 2022 الذي يحد صراحةً من التعاون مع الصين في مجالات معينة من البحث والتصنيع. وفي تشرين الأول 2022، طبقت إدارة بايدن قيوداً لتقييد وصول الصين إلى التقنيات الرئيسية ذات التطبيقات العسكرية، ولكن في هذا الصدد يرى عدد من العلماء، أن هذه المخاوف والاستجابات السياسية متجذرة في نظرة قومية لا تتوافق تماماً مع الجهد العالمي للعلم، لأنه في العالم الحديث، فإن البحث الأكاديمي مدفوع إلى حد كبير بتبادل الأفكار والمعلومات، حيث يتم نشر النتائج في مجلات متاحة للجميع، ويمكن لأي شخص قراءتها بعد أن أصبح العلم دولياً وتعاونياً بشكل متزايد، حيث يعتمد الباحثون في جميع أنحاء العالم على بعضهم البعض لتطوير أبحاثهم.
هكذا تعد الأبحاث التعاونية الحديثة حول السرطان، ووباء كورونا، والزراعة مجرد أمثلة قليلة من الأمثلة العديدة، فعندما يتعاون الباحثون الصينيون والأمريكيون وغيرهم، فإنهم ينتجون علماً أعلى جودة مما لو عمل كل منهم بمفرده. لقد انضمت الصين إلى صفوف الدول العلمية والتكنولوجية الرائدة، ويمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من الصعود العلمي للصين لمواجهة العديد من القضايا العالمية التي تواجه الكوكب، مثل تغير المناخ، وليس اعتبار هذا الصعود بمثابة تهديد.