حارة المؤيد وشغف الحكاية
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
دمشق.. ذلك العبق الأسطوري المعشش في أزقتها وحواريها وبيوتها المتراصة المتساندة طيناً وناساً، والتي كانت صورة مشرقة للحياة بكل أبعادها الإنسانية والاجتماعية، وتحمل في جعبتها قصصاً وحكايات تضاهي في متعتها وشغفها حكايات ألف ليلة وليلة، تلك الحكايات التي نستعيد قراءتها في كتابات أدباء أخلصوا لتراث هذه المدينة، فوثقوه في كتاباتهم، ليكون سفراً تتناقله الأجيال بكل ما يحمله من زينة وحكايات، وتقاليد عربية أصيلة.
وإحدى أهم مباهج دمشق القديمة، الهدوء والسكون الذي تختلط فيه نفحة التاريخ، بأريج الزهور الفواحة، ورائحة البيوت الحجرية العليلة الهواء، هذه البيوت التي تختزن في طياتها حياة الأسر العربية بكل تفاصيلها، ولابد لمن يتجول في أزقتها من أن يدفعه الفضول لمعرفة ما تخفي وراءها تلك الأبواب المغلقة، فرغم مرور العصور والأزمنة دمشق لم تكشف عن جمالها كله، وهي بذلك تشبه امرأة جميلة تختفي وراء برقع كلما كشفت عن جزء منها لاح منها جانب أكثر جمالاً، ومازال محبوها متعلقون بها، يبحثون عن أسرارها ومخابئ فتنتها، ومكامن سحرها.
في روايته “حكايات حارة المؤيد.. الجن والعاشقات” يعود بنا الأديب عماد نداف إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي ليرصد لنا الإرهاصات التاريخية السياسية والاجتماعية آنذاك متناولاً مرحلة الانقلابات في سورية والوحدة بين سورية ومصر التي تباينت مواقف الناس منها والتباينات التي عاشها سكان حارة المؤيد تجاهها، وهي إحدى حارات دمشق العابقة بقصص التاريخ، إذ وضعنا في أجواء ذلك الزمن وطباع ناسه ومزاجهم واهواءهم، سكبها في قالب روائي بأسلوب سلس وشفاف وبكثير من المصداقية، فشكل أحد التجليات المحورية للسارد الذي حاك مصائر الشخصيات بحرفية إذ كان الأهالي متعاضدون ومتكافلون بكل شيء، يعيشون جميعهم وكأنهم أسرة واحدة في الأفراح والأتراح، فذكريات دمشق القديمة صدى لماض جميل، يفتقد الحاضر لكثير من معالمه.
تنطلق أحداث الرواية من غرفة العناية المشددة في إحدى مشافي دمشق حيث يرقد فيها فادي عبد الرحمن الذي يعاني من الحمى بسبب إصابته بأحد التفجيرات التي طالت مدينة دمشق، هذه الحمى التي جعلته في حالة من الهذيان الذي يأخذه إلى حارته، حارة المؤيد ويستعيد الأحداث التي عاشها الأهالي في مرحلة من الزمن كانت الأجمل في تاريخ دمشق، وكأنه في هذيانه يرفض الواقع الحالي لمدينته التي يعشقها والتي دخلتها القطط السوداء وأخذت تعيث فيها فساداً، والتي تشبه القطط السوداء التي كان يراها في حارته وهو صغير، حيث كان الأهالي يتحدثون عنها كنوع من “الجن” الذي خرب حياة كثير من الناس، وفادي يردد: (أنا لم أحسب الزمن.. الهذيان امتد لساعات، وليس بمقدور من يهذي أن يُعد الساعات.. كنت أسأل نفسي: من أخذني إلى حارتي في الجسر الأبيض، من أخذني إلى الماضي، وأنا أغلي في حاضر مجهول، إنها حارة المؤيد الجميلة القائمة على الحب، حارة المؤيد هُدّمت.. راحت منذ زمن طويل.. يعني ماتت.. هل يمكن أن تموت الحارات؟.)
ومن مفردات الحارات الدمشقية أيام زمان يحضر “دفتر السمان” الذي كان مثالاً للتكافل والتعاضد الاجتماعي، حيث كان السمان يكتب بقلم الرصاص ما يستدينه أهل الحارة منه، ويدفع الحساب في آخر الشهر، لكن دفتر السمان في حكاية “حارة المؤيد” أخذ شكلاً مختلفاً إذ كان السمان “أبو صلاح” يسجل في دفتره الأحداث التي تعيشها سورية وردود فعل أهل حارته عليها وكأنه في تسجيلاته هذه يقدم وثيقة تاريخية لتلك المرحلة الزمنية من تاريخ سورية.
شخصيات حارة المؤيد مسكونة بالهم الفردي والجماعي، آهات وزفرات صادقة ومشاعر فياضة بالألم والحب معاً، تسكنك الصور والأفكار وتورق اللغة في حضرة الرواية فيأسرك الاخضرار رغم كل اليباس الذي يلحق ببعض شخصياتها، فليس غريباً على مؤلفها أن يوقظ فينا فتيل الحزن في روايته فيعطّر الحروف والصفحات وأروقة الذاكرة والوجدان، إنه انعطاف خطير ومهم في رواية هي أشبه بلوحة كونية فريدة الألوان والخطوط، إذ انطلق أديبنا في تفاصيل روايته نحو مناطق غائرة في تاريخ الذات السورية المثقلة بأوجاعها الانسانية والتاريخية، ونضحت بالكثير من الاشارات التي تجعلها تسير ضمن نسق تشفيري تصاعدي، ورمى بأوراقه الرومانسية في نسيج لغوي على خلفية تبادل فيها عمليتي الظهور والاختباء وراء الوصول الى الحقيقة، وهي الفكرة الأولى والأخيرة خلف تداعياته، إذ يواصل عماد نداف في روايته هذه مشروع اشتغاله على تفاصيل مدينة أحبها وعشق خفاياها وأسرارها، فـ”حكايات حارة المؤيد.. الجن والعاشقات” رواية انسانية بامتياز، تحاور الانسان في زمن نحتاج فيه الى الحوار والعقل والمشاعر معاً.