مجلة البعث الأسبوعية

الانفجار السكاني ليس مسبباً لحالة الطوارئ البيئية… الإنفاق العسكري هو السبب

البعث الأسبوعية- قسم الدراسات

إزداد عدد السكان بمقدار 2.5 مليار على مدى السنوات الستين الماضية، وبشكل خاص في الصين والهند، حيث تمت إضافة أكثر من مليار شخص في كلا البلدين. هناك الكثير من السكان المتواجدين في مراكز حضرية ملوثة وصاخبة، والكثير منهم في الدول النامية يعيشون في كثير من الأحيان في مساكن فقيرة أو غير مستوفية للشروط المطلوبة، كما يعيش الكثير من الناس على هامش المجتمع فهناك عدد كبير جداً من الناس وقلة في الموارد، والمياه ، والغذاء. ومع ذلك، فإن مشكلة انعدام الأمن الغذائي لها علاقة بالفقر، وهو نتيجة الظلم الاجتماعي والاختلال في النظام الاجتماعي والاقتصادي، مقارنة بعدد الأفواه التي يجب إطعامها أو نقص المواد الغذائية.

غالباً ما يُستشهد بالزيادة السكانية، عن طريق الخطأ، كسبب لحالة الطوارئ البيئية، لكن الأعداد الكبيرة ليست مصدر الأزمة أو المحرك لها، حيث كانت تاريخياً بسبب الدول الصناعية الغربية. بمعنى أنه لا تتعلق القضية فقط بالاكتظاظ السكاني، ولكن كما تقول الأمم المتحدة: “يحدث تغيير غير مسبوق ومستدام في الهيكل العمري لسكان العالم، مدفوعاً بزيادة مستويات متوسط ​​العمر المتوقع وانخفاض مستويات الخصوبة”. وبذلك فإن الموضوع معقد ويطرح مجموعة من التحديات الاقتصادية والصحية و الرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى أسئلة أساسية حول القيم والنهج العام للحياة وفهمنا وعلاقتنا بالموت. العيش لفترة أطول هو شيء يتوق إليه كثير من الناس، وهي رغبة تنجم جزئياً عن الخوف من الموت، وهذا الأمر سائد بشكل خاص في الغرب وأفريقيا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط. لكن في الواقع، يبدو أن البلدان الوحيدة التي توجد فيها رؤية أكثر توازناً وربما أكثر استنارة للموت هي الهند ونيبال، فضلاً عن بعض الجماعات القبلية.

ونتيجة للتقدم في الطب وتغيير نمط الحياة، يعيش الناس لفترة أطول، وتتزايد نسبة كبار السن بسرعة. فعلى الصعيد العالمي، كان هناك 727 مليون في سن 65 عاماً أو أكثر معظمهم من النساء في عام 2020، حيث من المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بحلول عام 2050 إلى 1.5 مليار، أو بين 16٪ -22٪ من الإجمالي، حيث يعيش 80٪ في البلدان الفقيرة أو المتوسطة الدخل (الهند والصين على سبيل المثال) ، 30٪ من السكان في اليابان تجاوزوا الستين من العمر.

في الحقيقة، لا يتغير عدد السكان فحسب، بل إن التحول من الحياة الريفية (حيث يوجد عادة نقص في فرص العمل) إلى المدن، والذي كان جارياً منذ عدة عقود يتزايد (أكثر من 50 ٪ من الناس على مستوى العالم يعيشون الآن في المدن)، خاصة بين الشباب (أقل من 30)، لهذه الحركة تأثير مدمر على المجتمعات الريفية والعائلات، فالقرى و البلدات الصغيرة تحتضر وتتآكل الأسر متعددة الأجيال، وبالتالي غياب الأجيال الشابة، وحتى الطلاق، وانخفاض الخصوبة (في بعض البلدان)، وزيادة مستويات التعليم والتغيرات في العمالة و الصناعة كلها عوامل تساهم في التغيير الديموغرافي ، وفي التأثير على الأسر والمجتمعات الصغيرة.

إن تمزق الهياكل الأسرية التقليدية، حيث يقوم الأجداد برعاية أبنائهم و أحفادهم ومع الأسرة الممتدة لرعايتهم يحدث أيضاً في البلدان النامية ، وإن كان ذلك بوتيرة أبطأ. هنا لا يوجد نظام رفاهية أو نظام معاشات تقاعد حكومي كما هو الحال في معظم الدول المتقدمة، وقد تم تقديم شكل من أشكال الأمن الاقتصادي تاريخياً للأباء المسنين من قبل أبنائهم. هذا النقص في الدعم الحكومي هو أحد أسباب هيمنة الأسر الكبيرة في البلدان الأفريقية وجنوب آسيا، بالإضافة إلى حقيقة أنه بسبب سوء الرعاية الصحية ومحدودية الوصول، فإن معدل وفيات الأطفال مرتفع. ففي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يبلغ متوسط ​​العمر 19 عاماً فقط (44 في أوروبا ، 39 في الولايات المتحدة والصين و 48 في اليابان) ، لديها أعلى معدلات وفيات الأطفال في العالم: 1 من كل 9 أطفال يموتون قبل سن الخامسة، وهذا ما يشكل  أكثر من 16 ضعفاً عن مثيله ​​في المناطق المتقدمة. وهذه إحدى النتائج العديدة للفقر، والتي هي في الأساس نتيجة للاستعمار والاستعمار الجديد والاستغلال المستمر من قبل القوى الغربية.

لا يقتصر الأمر على شيخوخة السكان  في جميع أنحاء العالم (باستثناء إفريقيا) ، بل يترافق مع تراجع معدلات المواليد، في بعض الحالات بشكل كبير، مما يعني أنه في العديد من المناطق ستصبح المجتمعات أكثر شيخوخة بشكل متزايد، ففي الصين العام الماضي كان هناك 11 ولادة لكل 1000 شخص مقارنة بـ 22 ولادة لكل 1000 عام 1980 ، وفي أوروبا عام 2020 ، 10 مواليد لكل 1000 شخص، بينما كانت 15 في عام 1980. كما تشهد الولايات المتحدة أيضاً اتجاهاً هبوطياً في المواليد، حيث كان المعدل 12 ولادة لكل 1000 شخص في عام 2021، بانخفاض من 15 في عام 1980 و 24 في عام 1950. كما أن معدلات المواليد آخذة في الانخفاض أيضاً عبر إفريقيا، وإن كان ذلك ببطء ومن مستوى مرتفع تاريخياً بلغ حوالي 45 ولادة لكل 1000 شخص في عام 1980 إلى  32 ولادة لكل  1000 شخص في عام 2021. وهذه نقطة إيجابية في مشهد مزدحم بطريقة فوضوية، وتعني أنه بمجرد أن يبلغ عدد سكان العالم ذروته في عام 2070 (من المتوقع أن يصل إلى تسعة مليارات) ، وسيبدأ في الانخفاض تدريجياً.

إن الآثار المجتمعية للتجمعات الكبيرة لكبار السن كثيرة  وتشكل قضايا ملحة أمام الحكومات، والأهم هو الرعاية الصحية والاجتماعية، وكلاهما يعاني إما من نقص التمويل على نطاق واسع (المملكة المتحدة على سبيل المثال) ، أو التكلفة الباهظة (الولايات المتحدة) ، أو غير موجود أو غير كافٍ في المناطق الريفية في أفريقيا جنوب الصحراء وريف جنوب شرق آسيا.

مثل هذه الخدمات العامة الأساسية والرعاية الصحية والاجتماعية يجب اعتبارها دائماً خدمة عامة وليست تجارة مربحة، وهناك حاجة إلى تمويلها بشكل صحيح، والنموذج الأكثر توهجاً للاستثمار العام هو الدول الاسكندنافية. في عام 2017 ، أنفقت الدنمارك والنرويج والسويد ما متوسطه 5400 دولاراً للشخص الواحد على الرعاية الصحية، بالمقارنة مع المملكة المتحدة، التي تفخر بخدماتها الصحية الوطنية، حيث أنفقت 3760 دولاراً فقط للشخص الواحد، يلاحظ أن الفرق صارخ. فالدول الاسكندنافية تمتلك القدرة على تمويل الرعاية الصحية والاجتماعية، لأن السكان والحكومات على قناعة بأهمية المجتمع الجماعي، وهم مستعدون لدفع الضرائب بمعدل يمكّن الخدمات العامة، بما في ذلك الرعاية الصحية من التمويل بشكل صحيح. في الدنمارك (2019) على سبيل المثال، كانت نسبة الضريبة إلى الناتج المحلي الإجمالي 46.3 في المائة، في الولايات المتحدة، حيث لا يمكن لملايين الأمريكيين تحمل تكاليف الرعاية الصحية، كانت 24 في المائة (على غرار منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية)  النصف تقريباً، وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء ، ذات الناتج المحلي الإجمالي المنخفض ، بمتوسط ​​16 في المائة.

يعتمد إنشاء نظام رعاية صحية واجتماعية وتمويله بشكل كافٍ على طبيعة المجتمع الذي يريد الناس العيش فيه، ونوع العالم الذي نريد خلقه. لكن هل نريد بناء مجتمعات حقيقية تقوم على العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة والمشاركة، تلك المجتمعات التي يُعترف فيها بأن الرعاية الصحية والاجتماعية لها أهمية أكبر من الإنفاق العسكري، المجتمعات التي تكون فيها المسؤولية عن الآخرين والعالم الطبيعي مركزية ، أم هل نواصل كما نحن ، نعيش في مجتمعات غير عادلة وغير صحية على نطاق واسع يستفيد فيها القليلون ويمارسون السيطرة على الأغلبية؟.