مجلة البعث الأسبوعية

فايز مقدسي: لولا الكلمة لانفجرت الحضارات!

غالية خوجة

لا بد من أسرار اجتمعت لتشكّل شخصية الشاعر الإعلامي المترجم المرحوم فايز مقدسي، ومنها كما أجابني ذات حوار أنه أدرك مبكراً مسؤوليته الإعلامية تجاه الناس، متحركاً بين الفن والثقافة والمجتمع المبني على دور المرأة المحوري لأنها العنصر الأساسي للحب والكلمة، لذلك، لا يمكن للرجل أن يعي ذاته وحياته إلا من خلالها، فتمسكه وتطلقه في آنٍ معاً فيحلق في السماء، ولا يختفي!

وتابع حينها: رغم أن النساء المبدعات قليلات جداً في كل من العصر الكلاسيكي والنهضة والحديث إلاّ أن عالم الغناء زاخر بعلامات هامة مثل فيروز ونجاة الصغيرة وإيرين باباس، ولربما تجاوزت نجاة الصغيرة عبد الحليم حافظ رغم حضورهما في المرحلة الفنية ذاتها!

لكن، ماذا عن الكلمة؟

من خلال تجربته لاحظ أن الكلمة في اللغة العربية مؤنث، وفي اللغة الفرنسية مذكر “le mot”، بينما في اللغة الإنكليزية فتحتمل الذكورة والأنوثة “The word”! كما لاحظ وجود إيحاءات متناغمة للكلمة بين اللغتين العربية والفرنسية، لأن الشاعر الفرنسي عندما يكتب قصيدة حب ويقول: “أنت ِ كلمتي”، فإنه يقول شيئاً خطيراً! يعني الكلمة، الروح القدس، الكون، ولذلك “في البدء كان الكلمة”، والكلمة حب يفجر طاقات اللغة، وهو أحلى تجربة يحياها الإنسان، وفيها تلتقي جميع العناصر المتناقضة بين الأرض الخصبة والصحراوية، الليل والنهار، الحرارة والبرودة، الشتاء، والمطر الذي يحب أن ينزل إلى باطن الأرض! والأرض تدور في الفضاء باحثة عن الضائع منها! الحب حالة كونية صوفية لإنسانية صافية.

أمّا بالنسبة لكل من المشهد الإعلامي والثقافي في العالم العربي، فلقد لاحظ أن وسائل الإعلام في توسع دائم، وتحديداً، الإعلام الخاص من إذاعات وصحف ومجلات وقنوات فضائية وإنترنت، وكيف كان يضطر قبل هذه الثورة التكنولوجية إلى مراجعة العديد من الكتب بحثاً عن معلومة ما، بينما اختلف الأمر مع وجود الشبكة العنكبوتية التي توفر كل ذلك بسهولة، وبفترة زمنية قصيرة، لأن “النت” عالم يتسع وكأن الإنسان يدور الكرة الأرضية في دقائق معدودة، لكن ذلك لا يغني عن الكتب لاحتمالات وجود بعض الأخطاء.

وكان يرى أن هناك العديد من الأقلام الشابة عربياً، وفي سورية خصوصاً، بعضها يتلمس الطريق نحو الجديد، والبعض الآخر استطاع تكوين عالم شعري جديد، آملاً أن يحدث ويفاجئوننا كما حدث وفاجأنا ذاك الجيل في الخمسينيات حين ظهرت التحولات ومنها مجلة شعر، وأدباء المهجر، متسائلاً: لماذا ليس لدينا حالياً ما يشبه “العصبة الأندلسية” و”الرابطة القلمية” وسواهما؟ لماذا اختفت هذه الظاهرة؟ ولماذا لم تظهر أية رابطة في فرنسا؟ ولماذا أصبحت الروابط الالكترونية من أهم الروابط المعاصرة، وهل بإمكاننا اعتبارها روابط مهجرية جديدة بشكل ما؟

بينما أكد لي عن كيفية تداخُل الرمز مع الأسطورة في شعره بقوله: درست إلى زمن طويل حضاراتنا القديمة من بابلية وكنعانية وآرامية، واكتشفت أن الكثير من الأشياء موجودة في الملاحم والأساطير القديمة، وهي مازالت موجودة في لغتنا المحكية، مثلاً كلمة “كار” والتي تعني “الصنعة” مازلنا نقول “كثير الكارات قليل البارات”!، أصلها سومري، قبل المسيح! ولاحظت بأن “رب السماوات والأرض” هي ذاتها في المسيحية والإسلام، وانتبهت إلى أن اللغة العربية جمعت في ذاتها كل أخواتها.

لكن، أين حوار الحضارات الإنساني ما بين الأسطورة والتاريخ والحاضر؟

حينها، شرد قليلاً وهو يجيب: إذا لاحظ الإنسان الوضع الدولي، فسيجد أن هناك ميلاً لحوار الحضارات، أمّـا ما يحدث في أغلب الأحيان، فهو صراع الحضارات، ليس لأن الإنسان بطبعه سيء، لكن، في كثير من الأحيان، الصراع ينتج عن سوء فهم الواحد منا للآخر، مثلاً: كيف يفكر العربي بالأوروبي؟ وكيف يفكر الأوروبي بالعربي؟ برأيي، حوار الحضارات يبدأ، ومازال يبدأ! ولو لم يكن كذلك لكنا في حالة انفجار الحضارات! وكل حضارة إذا لم تتحاور مع الأخرى، ستصاب بالعزلة، فالانقراض، فالموت.

وحدثني عن آلامه وأحلامه وطموحاته: قطعت مرحلة طويلة في الحياة، بعض الأحلام تحقق، وبعضها لم يتحقق، وكل من يكتب يعيش تجربة، والتجربة بحد ذاتها مؤلمة! الحياة منذ البداية صعبة، ونقول “نجّـنا من التجارب”، لكن، مازال لدي حلم وحيد، إنساني النزعة، وشمولي للأرض، وهو أن يعيش البشر بسلام، وتكف الحروب، وألا يعاني أي إنسان من الجوع، وأن تعود القدس، وكل شبر عربي، وأن تكون هناك دولة تحترم الفرد، وعلى الأمة العربية أن تبصر أكثر، لذلك، لم تعد لي أحلام خاصة!

أمّا ماذا لو وضعنا فايز وجهاً لوجه مع فايز؟

فوجئ، لحظتَها، بالسؤال، فابتسم قائلاً: رغم العلاقة القديمة والوثيقة إلا أنه في الكثير من الأحيان، يحدث خلاف بينهما! مثلاً، عدم موافقة الأول على نمط تفكير الثاني، ولا أعرف أيهما ينتصر في النهاية؟! لقد تفوق اسمي الإعلامي على اسمي الأدبي، ثم يضحك متابعاً: يصدف أن يسألونني: قرأنا لأديب اسمه فايز مقدسي، هل هو قريبك؟!

وهنا، تدخّلتُ سائلة: وماذا بعد؟

حدّق في نقطة بعيدة من ذاته والسماء، وقال: أتساءل كما قلت في “الساعة الناقصة”: إذا حدث ومتنا، ترانا نسلــّـم الروح في نظام، كما في /أوروبا/ صفاً مترادفاً كعسكر؟! أم سوف “نفر ونكر ونقبل وندبر معاً” كحصان الملك الضليل؟!

ليس أخيراً، أشير إلى أنّ المتابعين لإذاعة “مونت كارلو الدولية” الذين اعتادوا سابقاً على الاستماع  إلى صوت المذيع السوري الشاعر المغترب فايز مقدسي ـ رحمه الله، ربما، ما زالوا يذكرونه من خلال برامج عديدة ثقافية وتواصلية، وكيف أضفى عليها لمسة شيقة من روحه تفتح قلوب الناس على الكلمة والخيال، وذلك بين 1989 ولغاية 2010، هو المولود عام 1946 في دير الزور، المتوفى في باريس عام 2019، المعتز كونه إعلامياً من أصل سوري مقيم في فرنسا منذ 1972 دراسة وعملاً، إضافة لكونه شاعراً وباحثاً في تاريخ المنطقة القديم، ومترجماً للعديد من الملاحم الأوغاريتية التي اكتشفت في “رأس شمرة” إلى العربية مستعيناً بالترجمات الفرنسية، منها (البعل وعناة/ الأصول الكنعانية للفكر المسيحي/ معبد البعل/ الملك دانيال ـ ملحمة تاريخية)، وله العديد من الكتب الشعرية، منها: (أبجدية الأفعى/ الحبل بلا دنس/ الحياة السحرية/ الساعة الناقصة)، إضافة إلى العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في الدوريات السورية والعربية.