دراساتصحيفة البعث

الدعوة الإبراهيمية.. فحواها ومخاطرها

 توطئة

الولايات المتحدة الإبراهيمية فكرة سياسية لبست وحملت دينيا لتكون مقبولة على خلفية أن أبناء المنطقة العربية لديهم فكرة المؤامرة من كل ما هو سياسي، أي عملية خداع للرأي العام لاختراقه عبر تنويم مغناطيسي جماعي والاستثمار في العامل الروحي، وموقع أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام عند أتباع الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية، وخطورة المشروع من خطورة وقوة الحامل وهو الجامعات والمؤسسات الأمريكية، هارفرد بنسلفانيا فرجينيا ووزارة الدفاع. وفي إطار الاستثمار في العامل الروحي لتسويق الفكرة، اختير في مقدمة المسوقين لها المتصوفة أو الفكر الصوفي بوصفه يعتمد الروحانية لجهة حضوره في كل الديانات والفلسفات، سواء التصوف الإسلامي والغنوصية والهرمسية، وإلى جانب المتصوفة تأتي نخب الفكر والفن والثقافة والدين والفاعلين في الرأي العام.

والإبراهيمية كفكرة ومفهوم ومشروع تختبئ وتستظل تحت فكرة التسامح والعيش المشترك، ومن أن سيدنا إبراهيم يشكل الجذر الشائع بين أتباع الديانات التوحيدية، فاستغلال اسمه يمثل رافعة للفكرة / المشروع دونما حساسية تثيرها سياسة التطبيع بين العرب وإسرائيل. وبالنتيجة تكون الإبراهيمية هي الصورة الملطفة للتطبيع والمدخل لإقامة إسرائيل الكبرى والتطبيق العملي لصفقة القرن، إن نجحت. من هنا تأتي أهمية أن يحمل المفكر والمثقف العقل النقدي لمعاينة تلك الفكرة، أو ذلك المشروع الخطير الذي يرى أن الدين وسيلة لحل الخلافات، وليس لخلق الخلافات على قاعدة التطرف، سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو إسلاميا. وهنا علينا أن نتذكر أن صراع الثقافات لصموئيل هاتنغتون قد انطلق من فرضية أن الثقافات (الديانات) تتصارع، وقسم العالم لسبع ثقافات، ثم كان فوكوياما ليقول إن الثقافة أو الأنموذج الغربي الأمريكي سيقود العالم لأنه نهاية التاريخ. وقد راجع فوكوياما وعاين اطروحته تلك، عام 2010، ليقول أن النموذج الأمريكي الذي كان قد تحدث عنه سابقا سيقوم في جانب منه على صهر الديانات لإنتاج ديانة عالمية هي الإبراهيمية، لذلك وجدنا كم تحمس ترامب وكوشنير لـ “اتفاقيات أبراهام” و”صفقة القرن” التي هي التجسيد الاقتصادي للإبراهيمية، كما أن إسرائيل الكبرى هي التجسيد الجغرافي والسياسي لها، فضمن هذا السياق تأتي الإبراهيمية لتكون هي الدين العالمي، بمعنى صهر الديانات بدين واحد، والكيانات السياسية بكيان واحد هو الولايات المتحدة الإبراهيمية، ونزع الصفة السياسية والثقافية والهوياتية عن المنطقة العربية، وابتلاع فلسطين. وهذا ما جاء على لسان كوشنير، صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المسوق لها عام 2019 في تصريح له لقناة “سكاي نيوز” أن هدف صفقة القرن إزالة الحدود السياسية بين دول المنطقة، وجعلها منطقة اقتصادية وسياحية واحدة، ما يؤكد الاستنتاج بأن ما سمي صفقة القرن هو المحتوى العملي للولايات المتحدة الإبراهيمية، وكذلك إسرائيل الكبرى، فالولاء للفكرة وليس لشيء مقدس أو دولة أو معلم ديني. ومن هنا، ووفق المسار المحدد، لابد من إعادة كتابة تاريخ المنطقة أو قراءته قراءة تنسجم مع الفكرة وقضية التعايش بين العرب واليهود والمسلمين واليهود، وهذا مسار تؤكد عليه جامعة هارفارد، إضافة إلى أن تصبح المنطقة دولية مفتوحة لجميع شعوب المنطقة، تماماً كما أريد لمدينة القدس، في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة برقم 181 لعام 1947. وكمقدمة لترويج المشروع الإبراهيمي، عملت وسعت الاونروا أن تغير المناهج الخاصة بالفلسطينيين من الصف الرابع لتسوق الفكرة، وتسمية القدس المدينة الإبراهيمية، ولكن توجهها هذا قوبل برفض شعبي فلسطيني واسع فتم تعطيلها. وجاءت الخطوة تلك بعد اجتماع نتنياهو بترامب، ونتذكر أنه بعد رفض تلك الخطوة شعبياً، أوقف ترامب مساهمة الولايات المتحدة المريكية للاونروا التي تبلغ حوالي 250 مليون دولار أمريكي.

وبالعودة لتاريخ ولادة الفكرة، نكتشف أنها راودت وزارة الدفاع الأمريكية في “مجموعة دراسات الحرب والسلام”، منذ عام 1990، بعد حرب الخليج الأولى، وحرب الكويت، تحت عنوان “كيف يكون الدين طريقا لتحقيق السلام وليس للنزاعات والصراعات في المنطقة”، وعند حديث بوش الأب عن نظام عالمي جديد يقوم على السلام وفق المفهوم الأمريكي. وهنا كانت ولادة الفكرة التي تلقفها سيد نصير، وهو في سجنه، لتتبناها في الغرب مراكز الأبحاث والدراسات التي هي من يصنع السياسات. إن فكرة أو مفهوم الإبراهيمية ينقل حدود إسرائيل التوراتية إلى حدود الدين والجنس أو العرق والأصل من الحبشة والمغرب واليمن والشام والعراق ومصر، أي الانتقال من الحدود الدينية إلى الحدود الجينية عبر مسار، وليس شعاراً يطلق جزافاً.

المقاربة والمدخل

سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي نردده خمس مرات في صلواتنا بوصفنا مسلمين، يراد أن يكون وسيلة لاستعمارنا بكلمة حق يراد بها باطل. ففي إطار مسار التطبيع ومآلاته ونكساته الشعبية، رأى باحثون متخصصون في إحدى أهم الجامعات الأمريكية، وهي هارفارد وبنسلفانيا، أن ثمة حساسيات يثيرها مفهوم التطبيع عبر البوابة السياسية، واعتقدوا أنه يمكن تجاوز ذلك من خلال البوابة الروحية بالاستثمار السياسي لمعطى ديني وروحي، هو نبي الله إبراهيم، على خلفية أن إبراهيم هو أبو الأنبياء وهو الجذر الشائع الديني لأصحاب الديانات الثلاث ويشكل قاسما مشتركا بينها. وفي البحث في ولادة المصطلح أو المفهوم، يشار إلى أن أول من تولى تبني وطرح وتسويق هذه الفكرة هو أشهر الجامعات الأمريكية، هارفارد وبنسلفانيا وفرجينيا، حيث أحدثت مراكز أبحاث خاصة فيها عن الإبراهيمية، إضافة لمركز راند التابع للمخابرات المركزية الأمريكية، ومركزين أقامهما توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، بهذا الخصوص، تحت عنوان الحوار الشعائري أي الشعائر الدينية، حيث قام منذ سنوات عدة بإقامة صلاة سماها صلاة الكورونا جمع فيها أصحاب الديانات الثلاث لجهة الخلاص من ذلك الفيروس، والهدف طبعا هو أن يجتمع الجميع تحت سقف ديني واحد.

وفي سياق تتبعي تأصيلي للمشروع، نكتشف أن فكرة الإبراهيمية قد مرت بثلاثة مستويات، منذ عام 1990، ثم كمستوى سياسي طرح عام 2000، وصولا لمأسستها عام 2013. وبداية، يمكن الإشارة إلى أن سيد نصير المصري، الذي اتهم بقتل الحاخام مائير كاهانا في نيويورك، لم يتم إعدامه لأن هيئة المحلفين قد رأت أن الرصاصة التي قتلت كاهانا لم تكن قد أطلقت من مسدسه. وسيد نصير هذا كان قد تقدم بدراسة للساسة الأمريكيين، بدءا من بوش الأب، يرى فيها مخرجا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتخدم الأمن القومي الأمريكي، وقد وصلت لاحقا لديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي. وهيلاري كلينتون، فتم تبنيها. ويرى في تلك الدراسة أن حل الصراع بالمنطقة لن يكون إلا بإقامة اتحاد فيدرالي بين دول المنطقة يتأسس على حدود دينية، هي مسار إبراهيم عليه السلام، وهي عمليا حدود إسرائيل التوراتية، من نهر مصر إلى نهر الفرات، وتشكل اتحادا ولها قيم دينية مشتركة وجيش واحد ودستور يتضمن القيم المشتركة بين الشرائع الثلاث. ثم جرى تطوير الفكرة لتصبح اتحادا فيدراليا يشمل دول المغرب العربي وإيران وتركيا، ثم تم طرحها سياسيا عام 2000 لتتطور وتتولاها المؤسسات السياسية الأمريكية، حيث تم عقد مؤتمر عام 2013 دعت إليه وزارة الخارجية الأمريكية في عهد هيلاري كلينتون، وحضره مائة شخص من علماء الدين والفكر والسياسة من كل المذاهب، وسمي بالدبلوماسية الثانية، أو الفرعية، لبحث فكرة الوصول إلى قيم مشتركة بين الديانات الثلاث تصدر في كتاب له طابع القداسة، ما يعني نزع القدسية عما عداه، وكذلك إيجاد أماكن عبادة إبراهيمية تمارس فيها طقوس الديانات الثلاث، ويجري تسويق مضامينها ومضامين فكرة الولايات المتحدة الإبراهيمية عبر مراكز الأبحاث والدراسات، سيما وأن جامعتي فلوريدا وهارفارد قد قدمتا بحثين متكاملين، عام 2015، تضمن رؤية تفصيلية للمشروع على أن تتولى وزارة الخارجية الأمريكية تبنيها وترويجها ووضعها على الخريطة السياسية، ويكون ذلك عبر شبكة ثلاثية تتوزع في العالم، منها رجال الدين أو المومنين الفاعلين والمؤثرين بالمجتمعات من وفنانين ومثقفين ورجال اعلام ومال ورجال دين وخاصة المتصوفة في العالم وهم الذين يؤمنون بالإيمان كفكرة أيا كانت ديانتهم أو عقيدتهم أو فلسفتهم للحياة، فالمهم أن تؤمن بفكرة سواء كنت من أتباع الديانات الثلاث أو خارجها، إضافة لما يسمى القادة الروحيين وأسر السلام الذين يتم اختيارهم وتدريبهم في مراكز خاصة، نظرا لتأثيرهم في المجتمعات، وتحت مسمى إنساني لتغطية نشاطاتهم الهادفة، والمثال الحي على ذلك المجموعات التي تشكلت في الأردن حيث قاموا بنزع الألغام في منطقة وادي عربة وغور الأردن.

وتجدر الإشارة إلى أن المنظر الأمريكي فرانسيس فوكوياما صاحب اطروحة نهاية التاريخ كان قد قدم مراجعة نقدية لأطروحته تلك، أشار فيها إنه لابد من عملية صهر للأديان تحت مسمى دين عالمي، وهو ما تبناه وتحدث عنه أيضا الرئيس باراك أوباما، وهذا يشير إلى مسألة اقتفاء السياسيين الأمريكيين ما يطرحه المنظرون والمفكرون من مفاهيم ورؤى، وتبنيها كسياسات وخطط استراتيجية. وكذلك ما قام به كوشنير، مستشار الرئيس الأمريكي السابق ترامب، من دور في ذلك، وقوله إن هدف صفقة القرن إزالة الحدود السياسية بين دول المنطقة، وهذا يؤكد ارتباط هذا القول بحدود المسار المرتبط بحركة إبراهيم عليه السلام، من العراق إلى مكة وفلسطين مرورا بتركيا وسورية والأردن ومصر، إلى درجة أن الرئيس ترامب أطلق على اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية الاتفاق الإبراهيمي، وليس اسم المكان ككامب ديفيد أو أوسلو أو وادي عربة.

وفي إطار التطبيق العملي للمشروع الإبراهيمي، يتم تحديد وثيقة دينية سياسية تتأسس على قاسم مشترك بين الأديان الثلاثة، وإقصاء كل ما هو محل خلاف، أي الوصول إلى لائحة قيم مشتركة تعتمد على إعادة قراءة النص الديني للديانات الثلاث، وتأويله لتحتل الديانة الأسبق الأكثرية فيها، أي النصوص المشتركة، وهي في هذه الحالة الديانة اليهودية، لأن الديانات الثلاث تعترف بها بينما هي لا تعترف بكل تلك الديانات لجهة أنها جاءت ونزلت بعدها، ونهلت منها، فنكون أمام كتاب واحد مقدس بدل ثلاثة، ناهيك عن أن فكرة أرض المسار لا تعطي الحق بالأرض لشعوب تلك المنطقة، بل تراها أراض دولية أو مدوّلة، وتنزع طابع القداسة عن أية أرض، بما في ذلك القدس، حيث تسمى مدينة إبراهيم ما يطمئن الحميع وينهي الصراع السياسي والعسكري ويكرس فكرة التسامح. وهذه الولايات المتحدة سيكون مركز القيادة فيها للتفوق العلمي أو الرأسمال المعرفي بهدف الاستثمار الأمثل لمواردها. وهنا ستبرز كل من إسرائيل وتركيا بالموقع المتقدم، وهذا يذكرنا بكتابات وطروحات شمعون بيريز عن “شرق اوسط جديد”، وكذلك “مكان تحت الشمس” لبنيامين نتنياهو اللذين نظّرا لتلك الفكرة، أي العقل اليهودي والمال العربي، وتجدر الإشارة للثلاثي الأمريكي الخليجي الإسرائيلي، أي أنه يمثل المسيحية والإسلام واليهودية. والعنوان العريض هنا هو فكرة الإيمان، ولكي لا تثار الحساسيات خارج أتباع الديانات الثلاث يتم تسويق فكرة أن الإيمان هو الإيمان بأية فكرة أو عقيدة، أيا كانت، إضافة إلى هدم الهويات القومية والوطنية، والتركيز على الهوية الإبراهيمية، ونبذ الخلافات القائمة على حوامل دينية لأنها من وجهة نظرهم أساس الإرهاب والتطرف، وإبراز الخطابات التسامحية، وتشجيع الطرق الصوفية وخطابها (الدبلوماسية الروحية) التي تدعو للزهد والكشف والاتحاد مع الخالق.

مما تقدم، تبرز خطورة تلك الفكرة على وجودنا الحضاري والتاريخي والهوياتي، وتصبح مهمة مواجهتها وهي في طور التشكل من مهام المؤسسات الثقافية والبحثية، إضافة للمواجهة الشعبية والفاعلين الثقافيين، ورفض أي تسويق لها عبر نافذين سياسيين ومثقفين تم اختيارهم لترويجها بوصفهم مؤثرين في الرأي العام، إضافة لمخاطرها على الهويتين الوطنية والقومية، وضرب فكرة أمة عربية ووطن عربي، وضرب فكرة المواطنة والوطن القائمة على حامل قانوني وثقافي وحضاري، إضافة إلى إزالة اسم فلسطين وشعب فلسطين من جغرافية المنطقة وشعبها.

د. خلف المفتاح