ثقافةصحيفة البعث

“كارولين”.. تغيرات إنسانية لمواجهة المخاطر!!

نجوى صليبه

جلست تمارس مهنتها التي تعوّدت عليها منذ سنوات طويلة، فاختارت مكاناً مناسباً لمراقبة رجل ثّري يجلس وحيداً كلّ يوم، ويتنقل بين هاتفه الجوّال وحاسوبه، فهل ستنجح محاولتها اليوم على خلاف سابقتها بالأمس؟ فقد أذهلت وأثارت جميع الرّجال الموجودين على ظهر السّفينة حين رقصت بإغراءٍ ودلالٍ، إلّا هذا الخمسيني الأسمر الذي يرتدي ثياباً بسيطةً لكنّها ثمينة ومن أرقى الماركات، كذلك ساعته وخاتمه الماسي، أمور لاحظتها سريعاً فمعظم الرّجال الأثرياء الذين تعرّفت إليهم أهدوها هكذا أشياء، كما تلاحظه الآن وهو يغلق هاتفه ويصغي لأحد موظّفي السّفينة باهتمام وقلق.. تقترب منهما وتسألهما عمّا إذا كانا يتكلّمان في أمر يخصّها فقد سمعت اسمها أكثر من مرّة، ليردّ السّؤال بالسّؤال: نتكلّم عنك؟ من أنت وما اسمك؟ تخبره بأنّ اسمها “كارولين”، فيردّ مرّة أخرى باستهزاء شارحاً أنّ الأمر مجرّد تشابه أسماء، فقد كانا يتحدثّان عن جائحة تضرب العالم وتهدّد حياة ركّاب السّفينة واسمها “كورونا”.

يحلّ المساء ويجتمع الرّكاب ومعهم القبطان “آدم” حول القس “ميشال” الذي بدأ يتحدّث عن الفيروس وما يسبّبه للجسم وما هي أعراضه وكيفية الوقاية منه، موضّحاً لهم أنّ الأوامر قد جاءت بحجرهم جميعاً في السّفينة فهي لن تدخل أي بلد.. نزل الخبر عليهم كالصّاعقة، وبعد خروجهم من صدمتهم وشرودهم بدأوا يستفسرون عن هذا الفيروس، ومنهم “راكان السّعدي” الذي عرّف عن نفسه بأنّه أستاذ جامعي من العراق ويتحدّث الإنكليزية بطلاقة ثمّ أعلمهم أنّه كان يتابع أخبار الجائحة التي بدأت في مدينة “ووهان” الصّينية، محاولاً الإجابة عن الأسئلة بهدوء وحكمة وبصوتٍ لا يشي بالأمان.

أمّا “كارولين” فاكتفت بالصّمت وأشعلت سيجارتها، وعادت إلى التمعّن بذاك الخمسيني الأسمر.. ها هو يترك مكانه ويتّجه نحوها ويعرّفها على اسمه ومهنته “جمال القاضي” مهندس ورجل أعمال من سورية، متسائلاَ عن بلدها، فقالت مشيرةً إلى أنّه سبق وعرف اسمها بقي أن يعرف أنّها من لبنان وتعمل كراقصة، فيردّ محاولاً إخفاء خيبته بأنّ الرّقص فنّ جميل، ومعتذراً عمّا بدر منه سابقاً.. يقطع صوت القس حديثهما لينوّه بضرورة الابتعاد عن اللقاءات الجماعية واستخدام الصّابون كمعقم نظراً لقلّة المعقمات، مبدياً حزنه لأنّ من يعاني أمراضاً مزمنةً كالسّرطان والرّبو والسّكري هم أكثر عرضة للإصابة.. وهنا يرفع “جمال” صوته ويخبر الجميع بأنّه مصاب بسرطان الدّم وبأنّه قد يموت إن انقضى أكثر من خمسة عشر يوماً على موعد العلاج.

عاد كلّ إلى غرفته، وفي اليوم التّالي تحدّثت “كارولين” إلى القس قائلةً إنّها أصبحت حبيسة هذه السّفينة مثل “ماري” الفتاة التي تقوم على خدمتها والتي قد لا تخرج من المنزل لشهور عدّة بسبب أوامرها الصّارمة، وأحبّت أن تعترف له بأنّ كلّ ما حصل لها في حياتها كان بإرادتها ولم تكن ضحية، إنّها تنتمي إلى أسرة مثقفة، فوالدها مدير لشركة حكومية في بيروت ووالدتها تعمل في مونتاج الأفلام الوثائقية في إحدى المحطّات التّلفزيونية اللبنانية، أمّا هي فخريجة المعهد العالي للفنون المسرحية، وامتهنت الرّقص لأنّه يعني بالنّسبة إليها الحياة والمال والسّلطة، ومن خلاله تعرّفت على حيتان المال وأثرياء تجّار السّلاح وسياسيين لم يكتفوا بمشاهدتها وهي ترقص، بل صاروا يدفعون لها مبالغ كبيرة وهدايا ثمينة مقابل جسدها، وها هي الآن مسافرة للقاء أحدهم في إيطاليا لتتابع معه بقية الرّحلة.. اعتذر القسّ عن متابعة الحديث فقد حان موعد مهاتفته لبابا الكنيسة، أمّا هي فقررت أنّه يهرب منها كما بقية رجال الدّين، وسارت نحو غرفتها، وفي الممر ناداها “راكان” وبدأ يحدّثها عن الجائحة، ثمّ اعترف بأنّه كان يراقبها وبأنّها دخلت إلى قلبه، وهي في المقابل كانت تشعر بأنّ نبضاً غريباً يطرق قلبها لم تشعر بمثله من قبل.

وفي وقت آخر، يستذكر “جمال” حياته الماضية وكيف كان يتعرّف على أي فتاة جميلة، لكنّه تزوّج “بشرى” الوريثة الوحيدة لصاحب العمل وأنجبت له ابنه “سامي” الذي يستعدّ لدخول الجامعة، تاركاً حبّه الأوّل “لمياء” التي تزوّجت لاحقاً وأنجبت أكثر من طفل من بينهم “عبد الله” الذي شاهدها وعشيقها في مشهد غرامي لم يفارقه، حتّى شبّ وراقب العشيق السّري لأمّه، ولحقه وسافر على ظهر السّفينة ذاتها لكي يقتله، لكن إيزابيل المواطنة الأمريكية والمعالجة النّفسية جعلته يعدل عن رغبته بالقتل، بل وطلبت منه أن يخبره الحقيقة.

هكذا بدأ الجميع يتأقلم مع الحدث، ويستعد لما هو قادم من اعتراف بالحبّ إلى اعتذار عن خطأ إلى تقديم مبادرات وفق الإمكانيات، فـ”ماري” مصممة الأزياء بدأت بخياطة الكمامات والممرضة الجزائرية فاطمة التي تسافر برفقة زوجها تبرّعت بالعناية الطّبية في حال وجود مصابين، وبطلبٍ من “راكان” صارت “كارولين” ترقص بفرحها المعتاد، كذلك القبطان “آدم” اعتاد الوقوف إلى جانب القس وهو ينقل أخبار الجائحة والتي كان آخرها وصول فريق طبّي لإجراء المسحات والتّأكّد من خلو السّفينة من المصابين، وجاءت النّتيجة بوجود ثلاثة مصابين هم: الإيطالي ستيفانو وصديقه الشّاب الفلسطيني مصطفى المعزولين في غرفةٍ واحدةٍ، ولم يمض وقتٌ طويلٌ حتّى ودّع المسافرون “مصطفى” بحزن وقلق وانتظار للموت وترقّب للرّاحل الجديد.

وأمّا المصاب الثالث فكان “كارولين” هذا ما شكّل صدمةً أخرى لـ”راكان” الذي لم يمض على فراقه لحبيبته وزوجته سوى بضعة أشهر، وها هو الآن وللمرّة الثّانية مهدد بفقدان حبيبته التي نُقلت إلى مركز حجر خارج السّفينة، تاركةً له رسالةً اعترفت فيها بأنّها لن تصل إلى مستوى ثقافته وكلماته، لكنّها صادقة صدق الحبّ الذي لم تعرفه إلّا معه، إضافةً إلى وصيةً تمنّت عليه ألّا يفتحها إلّا بعد سماع نبأ وفاتها.

وهكذا تترك إيمان شرباتي روايتها “كارولين” بنهاية مفتوحة ومصير غير معروف كما نوّهت في مقدّمتها بالقول: “هذه الرّواية لم ترسم لها نقطة نهاية.. وما يزال أبطالها يتمددون فوق سطورها، يتمطّون في حبرها وأوراقها.. يزرعون في صفحاتها آمالهم وآلامهم.. ربّما إلى أجل غير محدد”.. نهاية مناسبة لرواية وقعت أحداثها في زمن كانت الجائحة في أوجها، وكان البشر في العالم كلّه يتخبّطون بين تأمين لقمة العيش والصّحة التي فضلوا عليها العمل -في النّهاية- فالموت جوعاً كان لديهم أكثر صعوبة من الموت مرضاً.

يُذكر أنّ الرّواية شاركت بمسابقة “التّكافل الاجتماعي في زمن الكورونا للإبداع الرّوائي 2020” وحصلت على المركز الأوّل، وصدرت النّسخة الأولى عام 2021 عن دار “بعل” للطّباعة والنّشر.