الرهانات الأنثروبولوجية وتحطيم أسطورة منتدى دافوس
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي مؤخراً في “دافوس”، لم يتوقف كلاوس شاوب، رجل الأعمال الألماني، ومؤسس المنتدى، عن تكرار ضرورة حتمية: “نحن بحاجة الى التعاون في عالم مجزأ”.
على الرغم من أن تشخيصه لـ “التجزؤ الأكثر أهمية” الذي غرق فيه العالم الآن هو مصدر الكآبة، إلا أنه يؤكد أن “روح دافوس إيجابية” وأنه في النهاية، يمكن العيش جميعاً بسعادة في “اقتصاد أخضر ومستدام”.
حقيقة، ما استطاع دافوس فعله هو إغراق الرأي العام بشعارات جديدة، فهناك “النظام الجديد” الذي، نظراً للفشل الكئيب لعملية “إعادة الضبط الكبرى”، التي تم التباهي بها كثيراً، يبدو الآن وكأنه تحديث متسرع لنظام التشغيل الحالي المتعثر، حيث يحتاج دافوس إلى أجهزة جديدة، ومهارات برمجة جديدة، وحتى فيروس جديد. ومع ذلك كل ما هو متاح في الوقت الحالي، هو “أزمة متعددة” أو، في لغة دافوس، “مجموعة من المخاطر العالمية المترابطة التي تتفاقم آثارها”.
عاصفة كاملة
اكتشفت التجاويف لمبدأ “فرق تسد” في شمال أوروبا، أن “الجغرافيا السياسية” لم تدخل أبداً في نفق “نهاية التاريخ”، ولدهشتهم، فإنها تتمحور مرة أخرى حول التهديد الجيوسياسي المزعوم، أي روسيا والصين، بالإضافة إلى إيران. لم يصنع” دافوس” عالماً يختلف عنه، ولم يفهم دافوس أبداً أن هذه “النخب” كانت مشغولة دائماً بالإشادة بإمبراطورية الفوضى و “مغامراتها” القاتلة في الجنوب العالمي. كما فشل دافوس في توقع جميع الأزمات الاقتصادية الكبرى الأخيرة، وبشكل خاص “العاصفة الكاملة” الحالية، المرتبطة بتراجع التصنيع في الغرب الجماعي الذي ولّدته النيوليبرالية.
وبالطبع، ليس لدى دافوس أي فكرة عن إعادة التعيين الحقيقية الجارية نحو التعددية القطبية، اذ ينشغل قادة الفكر الذين نصبوا أنفسهم “بإعادة اكتشاف” أن فيلم “الجبل السحري” لتوماس مان قد جرى في دافوس، على خلفية المرض الفتاك والحرب العالمية الوشيكة، منذ ما يقرب من قرن من الزمان. ويتم الترويج فعلياً لـ “الحرب العالمية الوشيكة من قبل عصابة من المحافظين الجدد والأمريكيين الشتراسيين النيوليبراليين، وهي دولة عميقة غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة من الحزبين، ولا تخضع حتى للأيديولوجية.
يبدو أن مجرم الحرب المئوي هنري كيسنجر لم يستوعب الأمر، ذلك أن لوحة دافوس حول نزع العولمة مليئة بالنتائج غير المتتالية، لكن وزير الخارجية المجري بيتر زيجارتو جلب على الأقل جرعة من الواقع. أما بالنسبة لنائب رئيس مجلس الدولة الصيني ليو هي، فقد كان بحكم معرفته الواسعة بالمالية والعلوم والتكنولوجيا، على الأقل مفيداً للغاية في تحديد الاتجاهات الخمسة الرئيسية لبكين للمستقبل المنظور، بما يتجاوز رهاب الصين الإمبراطوري المعتاد. ستركز الصين على توسيع الطلب المحلي، والحفاظ على سلاسل التصنيع والإمداد “السلسة”، و”التنمية الصحية للقطاع الخاص”، وتعميق إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، والسعي إلى “الاستثمار الأجنبي الجذاب”.
الهاوية الأمريكية
لم يحضر إيمانويل تود منتدى دافوس، لكن عالم الأنثروبولوجيا والمؤرخ وعالم الديموغرافيا والمحلل الجيوسياسي الفرنسي هو الذي انتهى به الأمر إلى كشف المستور لدى الغرب الجماعي في الأيام الأخيرة بأداة أنثروبولوجية رائعة، وهي مقابلة قائمة على الواقع، مع صحيفة لو فيغارو الفرنسية، المفضلة للطبقة العليا الفرنسية، وقد تم نشر المقابلة بين الخطابات المعادية للروس.
وفقًا لتود، أخطأ الكرملين في تقديره أن المجتمع الأوكراني المنهار سوف ينهار على الفور. بالطبع، لم يشرح تود بالتفصيل كيف تم الإفراط في عسكرة أوكرانيا من قبل حلف شمال الأطلسي العسكري. بالمقابل، كان تود على حق عندما أشار إلى أن ألمانيا وفرنسا أصبحتا شريكتين صغيرتين في الناتو، ولم تكونا على دراية بما كان يحدث في أوكرانيا عسكرياً، ولم تعرفان أن الأمريكيين والبريطانيين والبولنديين يمكن أن يسمحوا لأوكرانيا بخوض حرب طويلة الأمد، وأن المحور الأساسي لحلف الناتو الآن هو واشنطن -لندن -وارسو –كييف. ومن ثم فجر تود اعترافا من العيار الثقيل عندما أشار إلى مقاومة الاقتصاد الروسي التي تقود النظام الإمبراطوري الأمريكي إلى الهاوية، موضحاً أنه لم يتوقع أحد أن يصمد الاقتصاد الروسي أمام “القوة الاقتصادية” لحلف الناتو.
ونتيجة لذلك، قد تنهار الضوابط النقدية والمالية الأمريكية على العالم، وقد تنهار معها قدرة الولايات المتحدة على تمويل عجزها التجاري الهائل مقابل لا شيء. ولهذا السبب أضرمت نيران هذه الحرب التي لا نهاية لها. فيما يتعلق بالصين، أشار تود إلى أن هذه هي المعضلة الأساسية للاقتصاد الأمريكي، الذي لا يمكنه مواجهة المنافسة الصينية دون استيراد قوة عاملة صينية مؤهلة. أما بالنسبة للاقتصاد الروسي، فإنه يقبل قواعد السوق، ولكن مع دور مهم للدولة، ويحتفظ بالمرونة لتدريب المهندسين الذين يسمحون بالتكيف الصناعي والعسكري، وهذا يقود مرة أخرى، إلى العولمة بطريقة لم تستطع موائد دافوس المستديرة فهمها. لقد قامت أوروبا بالاستعانة بمصادر خارجية لنشاطها الصناعي لدرجة أنها لا تعرف ما إذا كان بالإمكان دعم إنتاجها الحربي.
في تفسير أكثر دراية لمغالطة “صراع الحضارات”، ينظر تود إلى القوة الناعمة ويصل إلى نتيجة مذهلة، مفادها أن أكثر من 75٪ من الكوكب، كان تنظيماً أبوياً، ولهذا السبب يمكن تحديد فهم الموقف الروسي، بالنسبة للمجموعة غير الغربية، بحيث تؤكد روسيا على محافظة أخلاقية مطمئنة.
لذلك فإن ما تمكنت موسكو من فعله هو إعادة وضع نفسها كنموذج أصلي لقوة عظمى، وليس فقط مناهضة للاستعمار، ولكن أيضاً الأبوية والمحافظة من حيث الأعراف التقليدية. بناءً على كل ما سبق، قام تود بتحطيم الأسطورة التي تروج لها “نخب” الاتحاد الأوروبي / الناتو -بما في ذلك دافوس -بأن روسيا “معزولة”، موضحاً كيف أن الأصوات الصادرة من الأمم المتحدة والشعور العام لدى الجنوب العالمي، وصفت الحرب، كما وصفتها وسائل الإعلام الرئيسية كصراع للقيم السياسية، وكصراع للقيم الأنثروبولوجية.
فهل يمكن أن تتمكن روسيا -جنباً إلى جنب مع الرباعي الحقيقي، الصين والهند وإيران، من التفوق على الرهانات الأنثروبولوجية؟. هذا الرباعي يمتلك كل ما يحتاجه العالم المجزأ ليزدهر في منزل جديد متعدد الثقافات. زيادة على ذلك، فإن هذه الوحدة في التنوع هي بالتأكيد أكثر جاذبية، وأكثر بناء من محور الحرب الأبدية. فهل سيتعلم العالم درساً من هذا؟ أو، على حد قول الفيلسوف الألماني جورج فريدريك هيغل – ما نتعلمه من التاريخ هو أن لا أحد يتعلم من التاريخ -فهل حُكم على العالم بالفناء؟.