في ذكرى رحيله.. ممتاز البحرة فنان تشكيلي أخلص للطفل ورسم الكاريكاتير
أمينة عباس
هو جزء من ذاكرتنا السورية الجميلة، ومن الشخصيات التي كلما مر الوقت على رحيلها نتذكره بكثير من الامتنان والشوق له لأنه لوَّن حياتنا بألوانه الجميلة الدافئة ونجح في ضمّ شخصياته التي رسمها ورافقت طفولتنا إلى كل عائلة سورية فبدت وكأنها أحد أفرادها، فمن منا لا يعرف ميسون ورباب وباسم ومازن؟ ومن منا لم يحزن على فراقهم حين غابت صورهم عن مناهجنا المدرسية بعد أن كانت خير رفيق لطفولة أجيال متعددة على مدار ثلاثين عاماً “1972-2002” لذلك لم يحظَ رسام في سورية والوطن العربي بما حظي هو من الحب والتأثير برسوماته التي تربت عليها أجيال عديدة وما زالت تحفر في ذاكرتهم شخصياته التي أبدع في رسمها وكانت خير صديق للكتب المدرسية والمسلسلات المصورة “للأطفال الكوميكس” التي أبدع فيها بشهادة الجميع كما أبدع في رسم شخصيات لمجلة “أسامة” مثل أسامة وشنتير وماجد وسندباد.
من مؤسسي مجلة أسامة
بدأت مسيرة ممتاز البحرة المهنية مع الأطفال بداية العام 1969من خلال مجلة “أسامة” الصادرة عن وزارة الثقافة، فهو من المؤسسين لها مع الكاتب عادل أبو شنب حيث ولِدَت شخصية أسامة التي سمّيت المجلة باسمها لتبدأ بعد ذلك علاقته مع الكتاب المدرسي للصفوف الابتدائية باقتراح من الشاعر سليمان العيسى، فابتكر شخصيات باسم ورباب وميسون ومازن، وغيرها، وشكَّل مع العيسى ثنائية جميلة، حيث كان تلاميذ المدارس يحفظون أشعار العيسى ويرددون في نهاية القصيدة اسميهما.. وعن رسوم الأطفال والأدب الموجه لهم قال البحرة في حوارٍ معه: “التراث استُهلِك في تقديمه للأطفال، والطفل حساس وقاسٍ وعادل، وتعجبه الأعمال الجديدة، والتراث مليء بالأشياء الجميلة، لكنها تحتاج إلى إعادة بحث،والتراث يحتاج إلى جهود لنبش الدرر الموجودة فيه، ويجب ألا يحكمنا وإنما يجب أن نستفيد نحن منه، وهذا ما نتناساه”.
رسام كاريكاتير
يُعتبر الفنان ممتاز البحرة أحد مؤسسي الرسم الصحفي والكاريكاتيري في سورية، ففي العام 1955 نشر رسومه الكاريكاتيرية في جريدة “الصرخة” الدمشقية ومن ثم في صحف”الرأي العام-صدى الشام-الثورة-تشرين-البعث” كما عمل في مجلات عدة مثل مجلة المعلمين ومجلة الجندي ومجلة التلفزيون العربي السوري، وتوقف عن رسم الكاريكاتير فترة من الزمن، وقددفعته أحداث الانتفاضة في الأرض المحتلة للعودة مجدداً إلى عالم الكاريكاتير، فأقام معرضاً كاريكاتيرياً في دمشق عن الانتفاضة ومعاناة أهلنا في فلسطين المحتلة.
الفنان التشكيلي
يُعدّ الراحل أحد رواد الجيل الثاني في الحركة التشكيلية السورية، إذ كان عضواً بارزاً في مجلس نقابة الفنون الجميلة في دمشق، وشارك في جميع المعارض الرسمية في مختلف المحافظات السورية، بالإضافة إلى مشاركاته الخارجية في معرض “ملامح من الفن العربي السوري” في المهرجان العالمي في كوبا عام 1978 وفي معرض شخصي في مدينة يريفان في أرمينيا، ومن أهم لوحاته لوحة ميسلون المعروضة في بانوراما الجندي المجهول على سفح جبل قاسيون ومساحتها 25 متراً مربعاً.
الأب الروحي
ولأن الفنان ممتاز البحرة هو الأب الروحي لمجلة “أسامة” وشيخ الكار في مجال رسوم الأطفال ومبتكر شخصية أسامة أكد رئيس تحرير مجلة “أسامة” أ.قحطان بيرقدار أنه لا يمكن تصوّر مجلة “أسامة” دون ذكر اسم ممتاز البحرة والسير على خطاه كرسّام استطاع أن يخترق عوالم الطفل بصدقه وأعماله الواقعية حين قدم شخصيات ليست مفترضة بل من واقعنا المحلي السوريّ، وقد خاطب من خلالها التفاصيل السورية بكلّ أبعادها، ولأنه كان صادقاً مع ذاته ومخاطبته للطفل انعكس ذلك على أعماله التي وصلت إلى الأطفال بسهولة، منوهاً بيرقدار إلى أن رسّامي “أسامة” اليوم يواصلون تأدية الرسالة العظيمة التي أسسها البحرة للطفل، لذلك لم تحِد المجلة عن (المدرسة الممتازية) بكل تفصيلاتها لإيمانها بها ولأهميتها، مبيناً أن المجلة وبالتعاون مع المركز الثقافي العربي في أبو رمانة قامت بتكريمه قبل وفاته بشهر من خلال استضافته وإقامة معرض ضمّ أعداد وأغلفة المجلة القديمة والتي رُسِمَت من قبل البحرة وكانت تُعرَض للمرة الأولى تحية من المجلة له ولإظهار الرسالة الهامة التي قدمها، كما سبق للمجلة أن أصدرت عدداً بعنوان “عدد ممتاز البحرة” وتم فيه إعادة نشر رسومات البحرة التي قدمها سابقاً للمجلة.
بناء تشكيليّ عالي المستوى
وما يميز البحرة ورسوماته برأي الناقد سعد القاسم أنه عرف كيف يتواصل مع الطفل، فقدم شخصيات ببناء تشكيليّ عالي المستوى، ونجح في مخاطبة الطفل الذي أخلص له، فطغت أعماله الموجهة إليه على اللوحة التشكيلية الكبيرة التي يتقنها، موضحاً القاسم أن مجلة “أسامة” إلى جانب الكتب المدرسية كانت الجسر الأساس ليصل البحرة إلى ملايين الأطفال، فظلّت رسوماته عالقة في أذهانهم وساهمت في بناء ذائقتهم الفنية، فكان إلى جانب مجموعة من الفنانين ممن أسسوا لفنّ الطفل في سورية في ظل عدم توفر التقنيات الحالية الموجودة بين أيدي الرسامين الشباب، والبحرة من الجيل الذي اعتمد على مهاراته الشخصية وقدم للطفل ما يرغب به ويشبع حاجاته، ومن هنا استطاعت “أسامة” أن يكون لها بفضله حضور غير عاديّ بالتأثير الذي كانت تحدثه عند أطفالنا الذين كانوا ينتظرون صدورها، ونجحت في أن تكون منافساً قوياً للكثير من المجلات العربية الأخرى بإمكانياتها المتواضعة.
فنان عبقريّ
وبيّن الفنان موفق مخول أن البحرة فنان مبدع وشكّل عبر مسيرته حالة فريدة في ساحتنا الفنية، وكان أكثر فنان له تأثير بصريّ على أجيالنا والمجتمع لأنه تواجد في بيوتنا، فكانت رسوماته ولوحاته في كل بيت وكل مكان وليس في المتاحف من خلال مناهج أطفالنا الدراسية، مشيراً إلى أن البحرة هو من حبّب أطفالنا بمدارسهم ومناهجهم، لذلك يُعدّ شخصية فريدة من نوعها، ومن الصعب أن يتكرر لأنه لم يكن موهوباً فقط بل كان عبقرياً في تعاطيه مع الأطفال وفناناً غير عادي بحضوره التشكيلي البصري الذي اخترق به قلب كل واحد منا.
شخّص الأدب بالرسوم
وأشارت الفنانة لجينة الأصيل إلى أن البحرة هو الذي شخّص الأدب بالرسوم، فترك بصمة لن تُمحَى من أذهان أطفالنا الذين قرؤوا مجلة “أسامة” والكتب المدرسية، ونجح كما لم ينجح أيّ فنان آخر في مخاطبة الطفل لأنه كان عاشقاً لعمله وللطفل الذي تعامل معه بصدق وموهبة كبيرة وقدرة استثنائية على تشخيص أيّ نصّ بطريقة صحيحة وبشكل مفرح لأنه أدرك أن الطفل يحب الفرح والمرح، لذلك اخترع شخصية شنتيري في مجلة “أسامة”والتي أحبها الطفل كثيراً لطرافتها ومرحها، كما كان له الفضل في ولادة شخصية أسامة فطبع المجلة بطابعه على الرغم من وجود أسماء كبيرة وكثيرة عملت معه في المجلة إلا أنه كان الوحيد الذي ترك بصمة واضحة فيها لأنها كانت حياته وتلخيصاً لشخصيته ونبضه وجزءاً منه، أما لماذا نجح البحرة في مخاطبة الطفل دون غيره من الفنانين فالسبب برأي الأصيل هو أن بعض الفنانين الكبار انشغلوا بأشياء أخرى، في الوقت الذي استمر هو في مخاطبة الطفل عبر رسومات واقعية قريبة منه وتشبهه، إلى جانب موهبته وملَكته في مخاطبة الطفل وهي ملَكة لايمتلكهاكل فنان.
صاحب مدرسة
وأوضح الناقد أديب مخزوم أن رسومات ممتاز البحرة في المناهج المدرسية وفي مجلة “أسامة” حملت هواجسه الطفولية والتربوية الريادية على مدى أكثر من نصف قرن، وهدفت إلى توجيه الصغار واليافعين نحو مشاعر التعلق بالوطن والدفاع عن قيم الخير والحق والعدالة والبحث عن مصادر المعرفة والجمال والإبداع، مبيناً أن رسوماته التربوية التوضيحية اعتُمِدت في المقررات المدرسية الابتدائية منذ العام 1972 وأخذ نجمه يزداد سطوعاً في مجال الرسم الموجه للأطفال، واستمرت رسوماته تجد طريقها إلى الصغار واليافعين وبأسلوب خاص ومتفرد وساحر ولا يبارى تميز به خلال رحلته الفنية الطويلة لأنها بقيت منجزة بخطوط قوية ورشيقة ومرنة وساحرة وضمن إطار الصياغة الواضحة والمقروءة والقريبة من اللغة الجماهيرية العامة، وبالتالي فهي لاتحتمل التأويل والتنظير لتثير الانتباه والدهشة والإعجاب، وهذا مانستشفه في سحر خطوطه وليونتها وحيويتها والمفتوحة على عوالم الدهشة والسحر في مشاهد الطبيعة والأطفال وأشكال الطيور والفراشات وطائرات الورق والدمى واللعب المنسية والتي تثير مشاعر وإعجاب الصغار والكبار معاً والتي تضاهي في حيويتها وعفويتها ومرونتها ورشاقتهارسومات أشهر الفنانين الأجانب المتخصصين في هذا المجال، منوهاً مخزوم إلى أن أهمية البحرة برأيه تكمن في أنه صاحب مدرسة وأسلوب خاص في الرسم الموجه للأطفال، حيث ظل وبخلاف رسومات معظم الذين عملوا في هذا المجال بمنأى عن التأثيرات بالفنون الغربية الأمر الذي ساهم بتدعيم تيار الثقافة الوطنية الطفولية.
ممتاز البحرة
ينتمي الفنان ممتاز البحرة إلى عائلة دمشقية وولِدَ في حلب في 9 أيار عام 1938 وعلى مقاعد الدراسة في ثانوية جودت الهاشمي في فترة الخمسينيات رسم أساتذته بشكل كاريكاتوري، وعندما أصدرت الثانوية مجلتها في العام 1954 كان له دوره الهام في العدد الأول اليتيم، فقد زيّنت رسومه صفحاتها،وبدأ دراسة الفنون في مصر مع زملاء سوريين مثل نذير نبعة وغازي الخالدي، لكن وفاة والده في السنة الدراسية الرابعة والانفصال بين الإقليمين السوري والمصري حالا بينه وبين إنهاء دراسته في مصر، فعاد إلى سورية، الأمر الذي اضطره للبدء من السنة الثانية لإكمال دراسته في جامعة دمشق في كلية الفنون الناشئة، فتخرج مع دفعة الخريجين الأولى لكلية الفنون-اختصاص تصوير فني، حاصلاً على إجازة في الفنون الجميلة، وكان من المتميزين في دفعته، ومن مدرّسيه محمود حماد وحسين إسماعيل ومحمود جلال وسعيد تحسين،وبعد التخرّج أقام معرضه الشخصي عام 1969 كما عمل كمدرس للفنون الجميلة لمدة 23 سنة، وحين وجد صعوبة في الجمع بين التدريس وعمله الفني استقال مبكراًواختار في سنواته الأخيرة دار المسنين منزلاً له: “قررتُ المجيء إلى هذه الدار في البداية على سبيل التجربة والاطلاع، وبعد شهرين طابت لي الحياة هنا وأنا مرتاح وسعيد، وهنا أعيش حياةً عادية، أقرأ كثيراً وأسهر إلى وقتٍ متأخر”.
تم تكريم الراحل في الشهر الأخير من العام 2017 في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بالتعاون مع مجلة “أسامة” أي قبل وفاته بشهر، وتزامن هذا التكريم بإقامة معرض خاص بلوحاته استمر لمدة أسبوع، كما تم إطلاق اسمه على المركز التربوي للفنون في منطقة التجارة بعد رحيله بفترة قصيرة، كما أطلقت الهيئة العامّة السوريّة للكتاب جائزة ممتاز البحرة لفنّ اللوحة الموجّهة للطفل للفنّانين السوريين والعرب، وكان الراحل عنواناً لإصدار أعدّه الرسام رامز حاج حسين عام 2018 ضمن سلسلة “أعلام ومبدعون” التي تصدرها الهيئة العامة السورية للكتاب لليافعين شهرياً.