مجلة البعث الأسبوعية

هل المعيار الذهبي على قيد الحياة ؟

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

ارتفع التضخم في الأسواق المتقدمة لأول مرة منذ 40 عاماً، ووصل إلى أرقام مضاعفة في العديد من البلدان، ونتيجة لذلك تزداد الأصوات المطالبة بالعودة إلى المعيار الذهبي، لكن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الحالي جيروم باول، له رأي آخر حيث قال في مقابلة معه : “لا أعتقد أن العودة إلى المعيار الذهبي ستكون فكرة جيدة”، وأيده في ذلك الخبير الاقتصادي جون ماينارد كينز بالقول: ” إن الذهب بقايا بربرية ، ولم يعد هناك حاجة له لدعم العملة”.

ماهو معيار الذهب ؟

عيار الذهب هو نظام نقدي ترتبط فيه قيمة عملة الدولة بالذهب، ويمكن القيام بذلك بشكل مباشر، عن طريق تحديد سعر ثابت للذهب مقابل الدولار، أو بشكل غير مباشر، عن طريق تحديد أسعار ثابتة للعملات الأخرى بالنسبة للدولار، وبالتالي ربط الذهب بشكل غير مباشر. بموجب نظام عملات “بريتون وودز”، كان فقط المالكون  الرسمييون غير الأمريكيين للدولار (أي البنوك المركزية) قادرين على تحويل الدولار إلى ذهب بسعر ثابت قدره 35 دولاراً للأونصة، لكن تم حظر الملكية الخاصة للذهب في الولايات المتحدة في عهد الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت في عام 1933، بينما جاز الرئيس فورد ملكية الذهب في عام 1974.

تعتبر كمية الذهب فوق الأرض محدودة، وهي تقدر بحوالي 200000 طن، كما أن كمية الذهب الموجودة في الخامات آخذة في الانخفاض، حيث تم استغلال معظم الرواسب الغنية. حتى أن متوسط درجة مناجم الذهب انخفض من 1 إلى 5 غرامات للطن، وهناك حاجة إلى كميات كبيرة من الطاقة لتكسير ونقل الصخور، على سبيل المثال، مما يحد من كمية الذهب التي يمكن استخراجها اقتصادياً.

إيجابيات وسلبيات المعيار الذهبي

إن الفكرة من وراء المعيار الذهبي هي ضمان عملة مستقرة تشكل حجر الأساس لاقتصاد يعمل بشكل جيد، حيث يؤدي انهيار العملة إلى إفقار قطاعات كبيرة من السكان، الأمر الذي قد يؤدي إلى التطرف السياسي، وفي النهاية يهدد الديمقراطية. وفي هذا الإطار أشار المؤرخون كيف أدى التضخم المفرط في ألمانيا إلى صعود النازيين، حيث يسير الخبراء إلى أن للمعيار الذهبي مزايا عديدة، وهي كالتالي:

  • إن ربط ازدياد النقود بنمو مخزون الذهب من شأنه إبقاء التضخم تحت السيطرة ، وبالتالي ضمان الاستقرار النقدي.
  • سيقتصر الإنفاق الحكومي على مقدار الإيرادات الضريبية، فأي تمويل للعجز عن طريق إصدار الدين سيتطلب ذهباً إضافياً.
  • ستكون البنوك المركزية محصنة من الضغوط السياسية حيث أن كمية الأموال المتداولة يتم تحديدها بالذهب.

ومع ذلك، هناك عيوب كبيرة، وهي كما يلي:

  • بموجب معيار الذهب، سيكون ازدياد النقود المتداولة مقيداً بشدة ويمكن أن يخنق النمو الاقتصادي.
  • العرض الثابت للنقود سيكون انكماشياً، ويؤدي على الأرجح إلى فترة من الكساد مع حالات الإفلاس والبطالة المرتفعة.
  • سيعتمد التوسع في العرض النقدي على نجاح عمليات تعدين الذهب واستمرار الاستثمار في التنقيب عن الودائع الجديدة.
  • ربما كانت معايير الذهب في الماضي قد نجحت فقط لأن مخزون الذهب الموجود كان أقل بكثير، ولذلك كان من الممكن زيادة مخزون الذهب، لكن من المستحيل تكرار معدل نمو مخزون الذهب والذي كان بنسبة 46٪ بين عامي 1900 و 1909 اليوم.
  • لن يتمكن صانعو السياسات من الاستجابة للصدمات الاقتصادية.
  • لا تتمتع جميع البلدان بفرص متساوية للحصول على الذهب بسبب نقص مناجم الذهب أو الاحتياطيات الحالية.
  • إذا تمت تسوية العجز التجاري الدولي بالذهب فسيؤدي ذلك بمرور الوقت إلى استنفاد احتياطيات الذهب، مما يؤدي إلى أزمة في ميزان المدفوعات إلى جانب عدم القدرة على سداد قيمة الواردات الأساسية.
  • في حالة – وهي من غير المحتمل- أن تسمح كمية الذهب المتاحة بإصدار دين إضافي، فمن الذي يحق له القيام بذلكالحكومة، أمالبنوك، أمالأسر، ومن الذي سيقرر من يمكنه الوصول إلى الديون الجديدة؟.

النظام النقدي الحالي غير مستدام

يبدو أن النظام النقدي الحالي غير مستدام على المدى الطويل لأسباب معقولة:

  • أولاً من المستحيل تكوين الأموال دون إنشاء مبلغ متساوٍ من الديون في نفس الوقت. وبالنظر إلى أسعار الفائدة الإيجابية، فإن الدين مع الفائدة المستحقة هو دالة أسّية (الفائدة على الفائدة في الفترات اللاحقة)، وهي مشكلة في عالم من الموارد المحدودة.
  • ثانياً تقلصت المنفعة الهامشية للديون مع ارتفاع مستويات الدين، فمنذ عام 2007، زاد الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بمقدار 11 تريليون دولار، في حين نما حجم الديون غير المسددة بمقدار 40 تريليون دولار. بعبارة أخرى، فإن الدولار الإضافي من الديون يولد فقط 27 سنتاً من الناتج المحلي الإجمالي الإضاف. أماالفائدة على الديون مستحقة سنوياً وتزيد من تراكم الديون، وعليه يصبح توليد الناتج المحلي الإجمالي الإضافي بديون إضافية صعب بل وأكثر صعوبة.
  • ثالثاً يصل مقدار الفائدة المستحقة على مستويات الدين المرتفعة إلى مستويات خطيرة، فوفقاً لمعهد التمويل الدوليتبلغ النسبة العالمية للديون إلى الناتج المحلي الإجمالي 343٪.وإذا كان  معدل فائدة يبلغ ثلاثة في المائة ، فإن أكثر من 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي يُسحب من الاقتصاد لسداد مدفوعات الفائدة كل عام، وهذا لا يشمل حتى سداد أصل القرض.

هل العودة إلى معيار الذهب أمر لا مفر منه؟

هل ستفتح الأزمة أو الانهيار في النظام الحالي الطريق للعودة إلى قاعدة الذهب؟. حتى الآن تنفي البنوك المركزية أن للذهب أي وظيفة نقدية، وهي لا تزال تحتفظ بأكثر من 36000 طن من الذهب تقدر قيمتها بأكثر من 2 تريليون دولار بأسعار السوق الحالية. علماً أن البنوك المركزية خفضت حيازاتها من الذهب من عام 1968 إلى عام 2008. ومن المثير للاهتمام أن مبيعات الذهب توقفت بعد “الأزمة المالية الكبرى” في 2008-2009، وبدأت البنوك المركزية في شراء ما بين 250 و 750 طناً سنوياً.

وعلى مدى العقدين الماضيين، قادت عمليات الشراء من قبل دول في الغالب خارج منظمة ” التعاون الاقتصادي والتنمية”، روسيا (1،875 طناً)، والصين (1،447 طناً)، والهند (428 طناً)، وتركيا (373 طناً)، وكازاخستان (324 طناً).

من حيث القيمة المطلقة، فإن أكبر مالكو الذهب هم الولايات المتحدة (8،133 طناً)، وألمانيا (3،355 طناً)، وصندوق النقد الدولي (2814 طناً)، وإيطاليا (2،452 طناً)، وفرنسا (2،437 طناً)، ومعظمها ” دول العالم القديم”. كما يمتلك أعضاء منطقة اليورو مجتمعين، بما في ذلك “البنك المركزي الأوروبي “، 10771 طناً، لكن أياً من هذه الدول لم تضيفه إلى ممتلكاتها، لأن القيام بذلك قد يشير للأسواق إلى تضاؤل الثقة في عملاتها، خاصةً اقتصادات الأسواق الناشئة الساعية للحاق بالاقتصادات المتقدمة.

إن ميزة حيازات الذهب واضحة، ففي أزمة العملة، يمكن للبنك المركزي تحديد سعر الذهب (المتزايد بشكل كبير) بشكل اعتباطي، وبالتالي تحقيق مكاسب إعادة تقييم كبيرة على حيازات الذهب الحالية. كما يمكن للبنوك المركزية في منطقة اليورو، على سبيل المثال، من خلال رفع سعر الذهب عشرة أضعاف، تحقيق أرباح تبلغ حوالي 6 تريليون يورو.

في مقابلة أجريت حديثاً، اقترح كلاس نوت، محافظ البنك المركزي الهولندي، إعادة تقييم الذهب كأداة لعلاج أي أزمة للوفاء بالديون. على سبيل المكافأة، قد يؤدي إعادة تقييم الذهب إلى أرباح غير متوقعة للمالكين من القطاع الخاص، مما قد يوفر للمستهلكين دفعة في الظروف الاقتصادية الصعبة.  ووفقاً للتقارير، يمتلك المواطنون الألمان في القطاع الخاص ذهباً أكثر من البنك المركزي الألماني.

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن النتيجة أقل وضوحاً، حيث لا تتوفر بيانات عن الملكية الخاصة للذهب في الولايات المتحدة، فالاحتياطي الفيدرالي، غير معروف لمعظم الناس، خاصةً أن “قانون احتياطي الذهب” لعام 1934 طالب بنقل كل الذهب إلى الخزانة. وفي المقابل، تلقى بنك الاحتياطي الفيدرالي “شهادة ذهب غير قابلة للاسترداد”، تقدر بسعر الذهب “الرقمي” البالغ 42.22 دولاراً للأونصة، وهو جزء بسيط من سعر السوق اليوم (1،838 دولاراً للأونصة). أما بنك الاحتياطي الفيدرالي فهو مدين بـ 261 مليون أوقية، ولكن فقط بالقيمة المحولة البالغة 11 مليار دولار، نظراً لسعر الذهب الإلزامي البالغ 42.22 دولاراً. والأهم من كل ذلك أن أكثر من 75% من الذهب الأمريكي يتحكم به الجيش كونه مخزن في “ويست بوينت،  وفورت نوكس”.

من ناحية أخرى، يقدر البنك المركزي الأوروبي الذهب بأسعار السوق (تبلغ قيمته حالياً حوالي 600 مليار يورو، أي حوالي 633 مليار دولار)، ويضعه فوق جميع الأصول الأخرى، حيث يتمتع البنك المركزي الأوروبي بحرية بيع أو شراء الذهب في السوق.

في المقابل، لا يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي البيع، لأنه لا يمتلك أي ذهب، كما أنه قد يواجه أيضاً صعوبات في شراء الذهب بأسعار السوق لأن هذا من شأنه أن يؤدي، بسبب السعر الإلزامي للذهب المذكور أعلاه البالغ 42.22 دولاراً، إلى خسارة فورية للمركز.

إن أيدي بنك الاحتياطي الفيدرالي مقيدة فيما يتعلق بالذهب، وبصفته مُصدر العملة الاحتياطية في العالم، كان إلغاء تداول الذهب أمراً ضرورياً لكي يحل الدولار محل الذهب كأصل احتياطي رئيسي للبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يكشف عن شرخ أساسي عبر المحيط الأطلسي، وعليه هذا ما يبرر أن محافظو البنوك المركزية الأوروبية، وإن كان ذلك سراً، صديقون للذهب، على عكس الاحتياطي الفيدرالي.

في حالة انهيار النظام النقدي الحالي، من غير المحتمل أن يتمكن مؤتمر دولي (على غرار مؤتمر بريتون وودز) من الاتفاق على موقف مشترك بشأن دور الذهب، وهذا يعني نهاية الدولار كعملة احتياطية في العالم. حتى في الاضطرابات التي ستلي ذلك، سيقيم المشاركون في السوق العملات الصادرة عن البنوك المركزية التي تمتلك حيازات كافية من الذهب، ولن تعود البنوك المركزية إلى معيار الذهب، مع إعطاء العيوب المذكورة أعلاه، ولكنها تستخدم ممتلكاتها المعاد تقييمها لاستعادة الثقة في الاستخدام المستمر للعملات الورقية.