أوكرانيا تتحول لأزمة وجودية
سمر سامي السمارة
يئس أصحاب النفوذ، وخاصةً المحافظون الجدد في الولايات المتحدة، من إمكانية هزيمة روسيا في أوكرانيا، إذ يعتقدون أن الولايات المتحدة وحلف الناتو لا يبذلان ما يكفي من الجهود لتحقيق ذلك، وهو ما دفع روسيا للفوز في أوكرانيا. وترتكز فرضيتهم الأساسية على وجوب زيادة الإمدادات العسكرية للولايات المتحدة، وذلك من خلال إرسال أسلحة بمليارات الدولارات لأوكرانيا، مبررين ذلك بأن الهدف الأساسي للرئيس الروسي هو إعادة تأسيس “الإمبراطورية الروسية”.
وفي مقال مشترك في صحيفة “واشنطن بوست”، أشارت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس، ومعها وزير الدفاع الأمريكي السابق، روبرت غيتس، إلى أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعل كل ما في وسعها لمنع ذلك، وإلا ستصبح روسيا قوية جداً، وهو أمر “غير مقبول” للولايات المتحدة.
ووفقاً لرايس وغيتس، فإن الطريقة الوحيدة لتجنب مثل هذا السيناريو تتمثل بقيام الولايات المتحدة وحلفاؤها بتزويد أوكرانيا على وجه السرعة بزيادة كبيرة في الإمدادات والقدرات العسكرية، وبما يكفي لردع هجوم روسي متجدد وتمكين أوكرانيا من صد القوات الروسية في الشرق والجنوب.
إن دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا – والذي يعتبر أقل بقليل من حرب شاملة لحلف شمال الأطلسي على روسيا – لا غنى عنه للغرب كي يتمكن من الحفاظ على نظام عالمي يخدم مصالح المحافظين الجدد، وهيمنة القطب الواحد. حتى أن المحافظين الجدد لا ينظرون إلى الصراع كنتيجة لسياسة الولايات المتحدة لتوسيع الناتو، بل إنه “عدوان غير مبرر”، و”هجوم” على “النظام الدولي” تقوم به روسيا.
ويتردد صدى المخاوف المتعلقة بحماية الهيمنة الأمريكية – التي تكشف عن غير قصد الأسطورة الغربية لانتصار وشيك في أوكرانيا – الآن في البيت الأبيض أيضاً. وفي إفادة صحفية في 6 كانون الثاني الجاري، قالت نائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي للأمن الدولي لورا كوبر كوبر: “من منظور استراتيجي شامل، من الصعب التأكيد بما فيه الكفاية على العواقب الوخيمة إذا كان بوتين سينجح في تحقيق هدفه المتمثل في الاستيلاء على أوكرانيا، الأمر الذي سيقود لإعادة كتابة الحدود الدولية بطريقة لم نشهدها منذ الحرب العالمية الثانية”.
ومن الواضح أن الهدف الأساسي وراء دفع توسع الناتو هو تعزيز هذا التحالف في مواجهة روسيا الصاعدة. فبعد أن عادت روسيا إلى الظهور ضد قوات الولايات المتحدة و أوروبا المشتركة، أصبح الصراع في أوكرانيا أزمة وجودية لإدارة بايدن وللمحافظين الجدد الذين اعتقدوا، منذ عام تقريباً، أن هذا الصراع سينتهي بطريقة واحدة فقط، وهو هزيمة مدمرة لروسيا.
إلا أن الحال ليست على هذا المنوال هذه المرة، وهذا ما أكد عليه المحافظون الجدد في “الدولة العميقة”، فعلى الرغم من الدعم الأمريكي، أصبح اقتصاد أوكرانيا في حالة من الفوضى، وفرّ الملايين من سكانها، كما دُمرت بنيتها التحتية، وباتت معظم ثروتها المعدنية وقدرتها الصناعية وأراضيها الزراعية الكبيرة خارج سيطرتها.
حالة الفوضى هذه تعكس وضع شؤون المحافظين الجدد في واشنطن، حيث ينهار نظامهم العالمي تحت ثقلهم، لذا يدفعون لإحيائه عن طريق نفس الوسائل القتالية التي كانوا يستخدمونها في جميع أنحاء العالم طوال العقود العديدة الماضية. ومع عدم مشاطرة بعض دول التحالف مثل ألمانيا وفرنسا، واشنطن أو المحافظين الجدد مصالحهم ووجهات نظرهم، أصبح واضحاً إن وضعهم يزداد سوءاً، خاصةً وأنه حتى المسؤولون الأوكرانيون الآن، يعتقدون أنهم يخوضون صراعاً ليس لصالحهم، بل لصالح الناتو.
في مقابلة “حصرية” مع برنامج تلفزيوني أوكراني، قال وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، إن أوكرانيا التي تتلقى تمويلاً كبيراً ومساعدات عسكرية من الناتو، أصبحت عضواً بحكم الواقع في الناتو، مضيفاً، أن أوكرانيا لا تقاتل ضد روسيا فقط نيابة عن الغرب، وإنما من أجل تنفيذ مهمة الناتو، وأنها مرتبطة بشكل مباشر بسياسات توسيع الناتو وضمان الهيمنة الغربية.
وأضاف أنه في قمة الناتو التي عُقدت في مدريد في شهر حزيران الماضي، تم تحديد روسيا على أنها التهديد الرئيسي للحلف خلال العقد المقبل، مؤكداً أن أوكرانيا اليوم تعمل على القضاء على هذا التهديد، ونحن ننفذ مهمة الناتو ولهذا نحن مطالبون بتزويد أوكرانيا بالأسلحة
ما هي هذه المهمة؟
وفقاً للمجلس الأطلسي، وهو مؤسسة فكرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحلف الناتو نفسه، تتمثل المهمة في هزيمة روسيا، لأنه في حال الهزيمة في أوكرانيا قد تؤدي لانزلاق روسيا من صفوف القوى العسكرية العظمى في العالم، وتترك موسكو في مواجهة سنوات من إعادة البناء قبل أن تهدد مرة أخرى المنطقة الأوسع. وبشكل حاسم، فإنه من خلال دعم أوكرانيا، سيكون الغرب قادراً على الحد بشكل كبير من الإمكانات العسكرية لروسيا دون الالتزام بدعم قواته أو تكبد الخسائر.
ولكن مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك، مجرد الحماس لهزيمة روسيا ليس كافياً، لذلك، فإن اليأس السائد في واشنطن “لبذل المزيد” من أجل أوكرانيا جعل المحافظين الجدد و”الأطلسيين” يروجون للعواقب الوخيمة المترتبة على هزيمة الناتو في أوكرانيا، والمتمثلة بقلب النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية رأساً على عقب، كما أن هزيمة الناتو في أوكرانيا قد تؤدي أيضاً إلى قيام روسيا بمهاجمة أعضاء الناتو الآخرين، بحسب ما يدعون.
هذه التنبؤات المثيرة تصور سيناريو يوم القيامة، أو الحرب العالمية الثالثة، حيث لن يكون الغرب قادراً على التلاعب بالعالم. وفي هذا السيناريو، إذا تمكنت روسيا من هزيمة القوات المشتركة لحلف شمال الأطلسي بمفردها، فإن ميزان القوى سيتغير بشكل كبير بمجرد انضمام الصين عسكرياً إلى “الكتلة الشرقية”.
من الواضح، أن هذا الاحتمال لم يعد بعيد المنال، بل إنه واقعي للغاية، كما تشير الصداقة “بلا حدود” بين موسكو وبكين، حيث يعمل هذا التحالف على تفكيك النظام العالمي الذي كان المحافظون الجدد والأطلسيون يحاولون حمايته على مدى العقود العديدة الماضية.