خساراتنا الأدبية
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
رفاق الأدب والإبداع يرحلون ويغادرون دنيانا في أوقات متقاربة وكأنهم على موعد واحد، فبالأمس غادر رفعت عطفة وقبله عادل محمود وكثيرون غيرهم واليوم يغادرنا شاعران شكّلا علامة بارزة في المشهد الشعري السوري والعربي، هما شوقي بغدادي ونذير العظمة الذي بدأ تاريخه الإبداعي منذ الطفولة التي فرضت عليه أن يكون مبدعاً وفناناً، حيث قدم في الخمسينيات ثلاث مسرحيات شعرية ونثرية هي (جراح من فلسطين- ابن الأرض- جسر الموتى) فالمسرح كان مرافقاً للشعر لديه، ولم يترك المسرح للقصيدة الغنائية وإنما مزج اهتمامه بالشعر الذاتي الغنائي السوري النقدي والشعر المستوحى من القضايا الاجتماعية، فالمعاناة التي عاناها على الصعيد الشعبي والأسري والانتداب هي التي دفعت به الى قول الشعر، وعن ذلك يقول: “شخصية الشاعر هي التي برزت في فتوتي، وعندما كنت في العشرين من عمري أحييت أمسية شعرية لفتت نظر كل من حضروها، حتى أن الروائي شكيب الجابري نهض وقال: «اليوم ولد الشعر في الشام، نذير العظمة هو «فرلين دمشق» فثقافتي بدأت مع مختارات من شعرنا وتراثنا حيث حفظت المعلقات وقسماً كبيراً من القرآن الكريم”. كما تحدث العظمة عن مرحلة الجامعة وتخرجه من قسم اللغة العربية وتعرفه على أساتذة مهمين أغنوا ثقافته وتطلعاته، وتعاطفهم مع تجربته الشعرية، جعلت منه أكثر التزاماً وجدية ومسؤولية لأنه لم يتعاط الشعر من أجل الشعر وإنما من أجل الحياة والوطن، فقد ضرب جذوره في البنية العربية وأصبح جزءاً منها، ومع ذلك فقد اطلع على ثقافات جديدة جذبته وأعطته آفاقاً مختلفة عن الآفاق الموروثة التي تعلمها في المدرسة والجامعة، آفاق دفعت به الى المزيد من الاهتمام بالثقافات الغربية فانتقل الى الترجمة ولاسيما من الانكليزية والفرنسية،، كما جذبه الشعر الرمزي الرومانسي لأسماء معروفة مثل (لافونتين- بودلير- لامارتين- فرلين وغيرهم) وهذا أمر مهم في موضوع المثاقفة، فالفن بلا مثاقفة لا يعيش، وأيضاً ضرورة انفتاح الشاعر على الآخر، وإلا فإنه يبقى مرصوداً بالتقاليد، فالانفتاح يكسر هذا القمقم ليخرج جني الشعر الى آفاق الإبداع فنضجت تجربته في وقت مبكر، وهو منذ طلعته له شخصيته الشعرية المختلفة التي تتصل بالجذور.
وفي تكريمه من قبل اتحاد الكتاب العرب ألقى الشاعر العظمة قصيدة «الطريق إلى دمشق»، التي كان يرى أنه رغم مشواره الطويل لازال في الطريق إليها لأنها المثل الأعلى، ودمشق التي في قلبه ودمه انتهت حياته وهو ساعياً لكي يصل إليها.
أما الشاعر شوقي بغدادي فيعد من الشعراء العرب المخضرمين، شارك في تأسيس رابطة الكتاب السوريين عام 1951 والتي تحولت إلى رابطة للكتاب العرب عام 1954، وانتخب أميناً عاماً لها حتى مطلع 1959، كما شارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب، وترجم الكثير من الأشعار عن الفرنسية، كما ترجمت أعماله إلى عدة لغات عالمية، له أعمال قصصية وروائية، وتزيد دواوينه الشعرية على ثلاثة عشر ديواناً آخرها «البحث عن دمشق»، وفي هذا الديوان يتقاطع مع نذير العظمة بحبه الشديد لدمشق وتعلقه بها.
إن التجربة الشعرية “لشوقي بغدادي” تمثل قارة شعرية مترامية الأطراف، في الزمان والمكان والأحداث، حيث نهضت تجربته من بداياتها على إنسانية الإنسان في كفاحه من أجل مستقبل أفضل، وبذلك ينفرد بين شعراء الحداثة في “سورية” بمعلمين بارزين أولهما ماثل في قصائده التي كتبها “لدمشق”، حيث كتبها من حواريها وأسواقها ومساجدها وكنائسها وأطفالها ورجالها، لأن البغدادي مسكون “بدمشق”، وثاني المعلمين إصرار “البغدادي” أن يكون الإنسان الشعبي في بساطته العميقة التي يمتلئ بها شعره، فإذا هي عوالم من واقع وخيال، تحذف من الشعر الحديث ما فيه من أوهام ومراوغة وافتعال، لنكون أمام الحقيقة كما هي عارية وجميلة، حيث كان يدرك أن الفن سوف يعيش، وأن الموت في الشعر ليس سوى حلم من بنات خيال الشاعر، فالرحمة لأرواح مبدعينا الذين غادرونا، والذين برحيلهم نفتقد لزمن شكلّوه بتجاربهم وعطاءاتهم التي حُفرت في وجداننا وبها سيبقى ذكرهم حاضراً أبداً.