مجلة البعث الأسبوعية

منعاً للتّداخل.. يوسف حطّيني ينبش جذور القصيدة القصيرة جدّاً ويحدد ملامحها  

نجوى صليبه

يستبق الدّكتور يوسف حطّيني الحدث، ويقطع الطّريق أمام المعترضين على  القصيدة القصيرة جدّاً والقائلين إنّها نتاج تغريب، ويبيّن في بداية كتابه “القصيدة القصيرة جدّاً.. جذورها.. تداخلاتها.. ملامحها” أنّها تستند إلى هوية تراثية وحديثة في آن معاً، موضّحاً: تنبع قصّتي مع موضوع هذا الكتاب من تجربة شعرية مازلت أعيش لذّتها، بعد أن أثّرت فيّ مجموعة من المقطّعات والمجتزآت والأبيات الفردية التي يتغنّى فيها الشّعر العربي أمثلةً لوحدة البيت، حيث تقفز إلى ساحة الذّاكرة مقطّعات ناصعة البيان والدّلالة، شكّلت وعيي الإبداعي والنّقدي، كتبها قدماء ومحدثون.

ومن أجل إزالة اللبس الحاصل نتيجة تداخل القصيدة القصيرة جدّاً مع أنواع أدبية أخرى كقصيدة الـ”هايكو” و”قصيدة النّثر”، يرصد حطّيني في كتابه المقسّم إلى سبعة فصول تاريخ هذه القصيدة ويحدد ملامحها، ففي الأوّل يخوض في جذورها تحديداً شعر المقطّعات، موضّحاً: لا نريد تتبع نشأة الشّعر العربي القديم مذ كان أشكالاً سجعيّة، لكنّنا سنأخذه في مرحلة نضجه الفنّي، لنقطّع منه تجارب المقطّعات التي كانت معروفةً منذ العصر الجاهلي، وندعم وجهة نظرنا التي تقول: إنّ الأدب الشّذري القصير جدّاً، سواء أكان شعراً أم نثراً، غير مرتبط بعصر السّرعة بل بالمواقف التي يعيشها الإنسان ويعبّر عنها، فوجود النّصوص القصيرة جدّاً في الآداب القديمة كالمقطّعات الشّعرية والحكايات القصيرة جدّاً من جهة، ووجود النّصوص الطّويلة في الأدب المعاصر من جهة أخرى، ولاسيّما أنّنا نعيش عصر تفتّح الرّواية وتنوّعها، لا يدع مجالاً للشّك في أنّ الرّبط بين عصر السّرعة والنّصوص القصيرة جدّاً يبدو ربطاً ساذجاً، لا يستند إلى أسس معرفية، ومبيناً: المقطّعات تحقق اشتراطات أساسية هي وحدة البحر والقافية والرّوي والوحدة الموضوعية والتّكثيف وتمحور التّفاصيل وقوّة الأثر والقدرة على الانتشار، ومستشهداً بمقطّعات من مختلف العصور الأدبية، فيذكر مقطّعة لعنترة بن شدّاد مؤّلفة من بيتين:

لئن أكُ أسوداً فالمسك لوني  وما لسواد جلدي من دواء

ولكن تبعد الفحشاء عنّي   كبعد الأرض عن جوّ السّماء

كما يستشهد بمقطوعة للشّاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة، وهي مؤّلفة من خمسة أبيات، نختار منها اثنين:

ما كنتُ أشعر إلّا مذ عرفتكم       أنّ المضاجع تمسي تنبت الإبرا

لقد شقيت وكان الحين لي سبباً     أن غُلق القلب قلباً يشبه الحجر

وفي تمهيده للفصل الثّاني الذي حمل عنوان “نظرات في قصيدة النّثر” يتساءل حطيني: ما الذي يعيدنا اليوم إلى قصيدة النّثر؟ وما المسوّغ المنهجي للولوج في موضوعها في سياق بحث يدور حول القصيدة القصيرة جدّاً؟ والجواب الذي نعدّه مقنع إلى حدّ كبير هو يقيننا بأنّ قصيدة النّثر هي عتبة من عتبات القصيدة القصيرة جدّاً، ذلك أنّها أفادت من كثافة الكلمة والصّورة ومن ادهاشها ومن إيجاز العبارة في كثير من الأحيان.. إلى قوله: وأفادت من شعرية المنجز الإبداعي العربي والغربي في رفع سويّتها الفنّية، فوظّفت الإحالة الثّقافية والتّناصية والرّمز والأسطورة، وأفادت من التّقابلات التّركيبية من أجل ترسيخ دلالتها.

وينتقل حطيني في الفصل الثّالث إلى قصيدة الهايكو، محاولاً اختيار أفضل النّماذج، حتّى لا يصيب القارئ ما أصابه من الاكتئاب المزمن، يقول: لقد كدت أصرخ: ارحمونا يا أصحاب الكتابات الشّذرية من هذا التّداخل المرهق بين الرّينجا والتّانكا والهايكو والسنريو والهايبون، واعترفوا بأنّ ما تنجزونه هو نصّ نثري قصير جدّاً، يمتاز أو يفترض أن يمتاز بالطّرافة والجدّة وحسن الالتقاط وجمال التّصوير وقوّة الأثر، من دون أن تدّعوا انتماءه إلى هوية الشّعر، لأنّ الشّعر إيقاع ولأنّكم حين نقلتم شكله الياباني لم تفهموا إيقاعه، مضيفاً: لكنّي وبحكم تكويني الأكاديمي وطّنت نفسي على قبول شعرية “قصيدة الهايكو” ومشتقاتها بنسختها العربية غير الإيقاعية، لأنّني لست نعامة حتّى أنكر وجودها، ولأنّ إنتاجها بلغ من الكثرة الحدّ الذي يجبر النّقاد على التّعامل معها.

“القصيدة القصيرة جدّاً ومشكلة المصطلح” عنوان الفصل الرّابع، ويبدأه حطيني بشرح موجز عن التّأثير السّلبي لفوضى المصطلحات في الأدب على المتلقي، مبيّناً: لقد عانت القصيدة القصيرة جدّاً من فوضى المصطلحات، ومن دخول الفضاء الإلكتروني على الخط، والذي أسهم في ترسيخ الفوضى من جهتين، الأولى: لأنّه فضاء مفتوح يسمح للاختصاصيين وغيرهم بدخول هذا الميدان الشّائك، والثّانية: لأنّه فضاء يقوم على التّفاعل بين المبدع والمتلقّي، ما أدّى إلى الرّبط غير الدّقيق بين مصطلح القصيدة التّفاعلية والقصر والتّكثيف والإيجاز، مضيفاً: أنحاز إلى مصطلح القصيدة القصيرة جدّاً الذي تحاول مصطلحات أخرى أن تنتزع منه جدارته، بعضها حديث الاستخدام وبعضها ضارب جذوره في التّراث العربي والعالمي، فكلمة “قصيدة” واضحة المعالم، وتفترض ملامح محددة في طليعتها الإيقاع، وهي تحتاج تركيباً وصفياً يحدد طبيعتها وصفاته الأخرى، لذلك جاءت “قصيرة جدّاً” لتحدد مجموعة الملامح الأخرى كالقصر والتّكثيف، ونحن لسنا بحاجة إلى مصطلح جديد بقدر حاجتنا إلى إضافة وصف جديد لمصطلح موجود لإعطائه دلالة إضافية، ومبيناً: هذه القصيدة تمتلك المقوّمات الإيقاعية العروضية، وتمتاز بالقصر والتّكثيف الشّديدين اللذين يساعدان على تحقيق وحدة موضوعها، وتناميها بشكلٍ سهمي عبر السّردية وغيرها وصولاً إلى لحظة التّنوير التي تتمّ عبر المفارقة.

وفي الفصل الخامس، يؤكّد حطيني أنّ الإيقاع الشّعري العروضي هو أهمّ شروط الانتماء إلى هذه القصيدة، لكنّ توافره لا يضمن نجاح النّص، موضّحاً: والإيقاع الشّعري الذي نقصده هنا هو ما ارتضاه العرب لأنفسهم من ضوابط إيقاعية عروضية بدءاً ببحور الشّعر العربي، وانتهاءً بكلّ ما بُني عليها من تطوير وتهذيب، إضافةً إلى روافع إيقاعية أخرى يمكن أن تسهم في صناعة موسيقى النّص الشّعري، ومحدداً ـ في الفصل السّادس ـ الملامح غير الإيقاعية لهذه القصيدة من تكثيف ووحدة موضوعية وبناء هرمي يفيد ـ بحسب الكاتب ـ من السّردية ويتّجه بشكلٍ سهميّ نحو الخاتمة لإحداث  المفارقة النّهائية”.

“معارك نقدية” ـ كما اصطلح الدّكتور حطّيني ـ رافقت عودة القصيدة القصيرة جدّاً إلى السّاحة الثّقافية السّورية، يوضّح: ثمّة انتقادات أثيرت حول الشّكل الفنّي، وأخرى حول مضمونها، ورأى بعض المنتقدين أنّها لن تكون صالحةً إلّا لتسرد طرفة أو ملحةً، لكن أخلص إلى القول: هذه القصيدة مثلها مثل أي نوع من أنواع الأدب الشّذري، قادرة على خوض أي موضوع ذاتي أو وطني أو قومي أو إنساني أو فلسفي، لكن ضمن شروطها الفنّية، وهي قادرة على إحداث أبلغ الأثر إذا توافر لها شاعر مبدعٌ قادر على حمل رسالتها.

ويخصص حطّيني الفصل السّابع لعرض نماذج من القصيدة القصيرة جدّاً عالجت موضوعات مختلفة، من دون أن يزعم أنّه سيغطي كلّ الموضوعات التي عالجها هذا الفنّ، فيستشهد بنصّ من نصوص الشّاعرة سمر تغلبي، منوّهاً بأنّها تقّدم علاقةً مجازيةً بينها وبين القصيدة، بل بين القصيدة والقارئ عموماً، تقول:

زيدوا القلوبَ

من القوافي شربةً

فالرّوح ظمأى

والحروف غدير

ويتابع حطيني: ربّما يتّخذ المكان في الوطن صورة المأساة على النّحو الذي نشهده في بعض النّصوص التي يبنيها شاعرها على رؤيته المأساوية، على نحو ما نجد في نصّ رومانسي حزين للشّاعر إبراهيم عبّاس ياسين، يقول متألماً على طبيعة لم تعد تشبه نفسها، إثر نشوب حرائق كبيرة في الغابات السّورية في عام 2020:

الرّمادي ابتداء.. والرّمادي انتهاء

والرّمادي هو البرّ.. هو البحر

هو الظّلماء والفجر وقمصان السّماء

الرّمادي هو الرّمان والزّيتون والتّين

وتاج السّنبلة

السّلاطين.. الصّعاليك.. المماليك

الملوك.. المهزلة

والرّمادي ابتداء المرحلة

وانتهاء المرحلة

فاذهبي يا كلّ صلباني

ويا النّواقيس الثّكالى

في رماد الحقبة المشتعلة

ويختم حطّيني بحثه بالقول: نحن أمام لونٍ أدبيّ قادر على الخوض في أيّ موضوع، وهذه ليست ميزة القصيدة القصيرة جدّاً دون غيرها، ذلك أنّ الشّكل الفنّي: شعراً كان أم نثراً أم طويلاً أم قصيراً قادر على تناول أيّ موضوع، لأنّ الشّكل مجرّد حامل فنّي يختاره المبدع قالباً للموضوع الذي يريد معالجته.

يذكر أنّ الكتاب صادر عن دار “توتول” للطّباعة والنّشر والتّوزيع في دمشق عام٢٠21.