مجلة البعث الأسبوعية

زلزال أوكرانيا الجيوسياسي يحدث هزات عنيفة في أوروبا

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

تتغير التوازنات الداخلية للاتحاد الأوروبي بشكل كبير نتيجة حرب الولايات المتحدة بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، فلدى الدول المجاورة لمنطقة الصراع، دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق، حس أكبر للمشاركة في الصراع مقارنة بدول أوروبا القديمة.

كان لهؤلاء الأوروبيين الجدد تاريخ صعب يضعهم في مسار معاد لروسيا، حيث باتوا أقرب إلى الولايات المتحدة وبريطانيا من حلفائهم الطبيعيين في أوروبا الغربية. عل سبيل المثال، بولندا التي تعتبر أقوى كيان في أوروبا الجديدة، تستثمر بشكل كبير في الدفاع مما قد يجعلها القوة العسكرية الرائدة في أوروبا، حيث قامت عام 2022  بإبرام عقد ضخم لشراء الأسلحة مع كوريا الجنوبية، من بينها  دبابات قتالية ثقيلة -أربعة أضعاف فرنسا- ومدفعيات، وطائرات مقاتلة مقابل 15 مليار يورو. كما وقعت وارسو عقداً في شهر كانون الأول من العام الماضي لشراء قمرين صناعيين للمراقبة من فرنسا مقابل 500 مليون يورو، حيث تريد بولندا من وراء تلك الصفقات أن يكون  لها أهمية أكبر في الشؤون الأوروبية.

من ناحية أخرى، تعتبر ألمانيا، التي تمثل مركز القوة في أوروبا، الحرب قضية حساسة بشكل خاص، فهي في حالة تساؤل مستمر عن نفسها، فالإرث النازي الألماني، واعتمادها على الغاز الروسي، والإحجام عن تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا جعلها في حالة قلق دائم بسبب مسألة شحنات الدبابات الثقيلة. ومع ذلك، استولت ألمانيا على الفور على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا لتعلن في 27 شباط الماضي عن زيادة حادة في إنفاقها العسكري إلى أكثر من 2٪ من ناتجها الاقتصادي في واحدة من سلسلة من التحولات السياسية. فقد قررت حكومة المستشار أولاف شولتز تخصيص 100 مليار يورو للاستثمارات العسكرية من ميزانيتها لعام 2022، وبالمقارنة بلغت ميزانية الدفاع الألمانية بالكامل في عام 2021 حوالي  47 مليار يورو.

وحتى لا يتخلف عن الركب، قال الرئيس إيمانويل ماكرون في حزيران الماضي  إن العملية الروسية في أوكرانيا دفعت فرنسا إلى  حالة “اقتصاد حرب” يتوقع أن تستمر لفترة طويلة، وأعلن أنه سيطلب من البرلمان الموافقة على ميزانية جديدة بقيمة 400 مليار يورو للفترة 2024-2030، مسجلةً بذلك ارتفاعاً من  295 مليار يورو خلال عامي 2019-2025. قال ماكرون: “إن الميزانية الدفاعية الجديدة تهدف إلى تحديث الجيش الفرنسي ومعداته لمواجهة العديد من التهديدات الجديدة المحتملة. بعد إصلاح الجيوش، سنقوم بأداء  أفضل ومختلف”.

من المؤكد أن الزلزال الجيوسياسي في أوكرانيا تسبب في حدوث هزات في جميع أنحاء أوروبا، حيث تقوم كل دولة بتقييم موقفها ودورها. وعلى الرغم من عدم وجود دولة تشكك في التزامها الأوروبي، إلا أن هناك شعوراً واضحاً بالارتباك. وفي هذا الإطار كتب شولتز في مقال قبل شهرين في مجلة “فورين أفيرز” أن الوقت قد حان لـ “نقطة تحول” تاريخية، بشأن تحمل ألمانيا المسؤولية.

ومرة أخرى، وقع ماكرون ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز مؤخراً معاهدة جديدة للتعاون المشترك وصفت بأنها معاهدة صداقة تاريخية لتحقيق أهداف استراتيجية مشتركة، وقررا من خلالها التخلص من التوترات بشأن خط أنابيب الغاز “ميد كات” المقترح عبر جبال البرانس (والذي تم عرقلته من قبل فرنسا لأسباب بيئية).

لكن لكلا البلدين دوافع مختلفة، فربما تعمل فرنسا على تعزيز الدعم الأوروبي، حيث تستعد للنزاع مع الولايات المتحدة حول مليارات الدولارات من الإعانات للشركات الأمريكية كجزء من قانون خفض التضخم الذي أصدره الرئيس جو بايدن، والذي يهدف إلى تمويل التحول الأخضر. وربما تهدف إسبانيا إلى أن تصبح لاعباً أكثر بروزاً في نواة القوة الأوروبية، وتقدر أن تحالفاً أقوى مع فرنسا سيساعد في ذلك.

لقد تغير ميزان القوى في أوروبا، ومن غير الواضح ما إذا كانت فرنسا وألمانيا ستنجحان في تحقيق توازن جديد، حيث يتعرض شولتز في الوقت الحاضر لضغوط متزايدة من الحلفاء لإرسال دبابات قتالية من طراز “ليوبارد” ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، أو للسماح لدول أخرى بإعادة التصدير من مخزوناتها الخاصة.

وأمام كل ذلك، تقود الولايات المتحدة هذا التمثيل الإيمائي من وراء الكواليس، فواشنطن عازمة على وضع المسامير الأخيرة في نعش التقارب الألماني الروسي، وتعطيل إحياء المحور الفرنسي الألماني للتصدي بشكل مشترك للرد الأوروبي على قانون الدعم المفترس لـ بايدن، ورسم مسارات لحماية الصناعة الأوروبية. وعليه فإن المخاطر الاقتصادية كبيرة للغاية، إذ من المرجح، بدافع الدعم الأمريكي، هجرة الصناعة الأوروبية إلى أمريكا، خاصةً أن فرنسا وألمانيا تتشككان بشدة في أن تقوم واشنطن بإجراء تغييرات ذات مغزى على خطة الاستثمار الأخضر.

في الواقع، لقد اختارت بولندا اليوم على وجه التحديد توجيه بنادقها ضد ألمانيا، بينما كان ماكرون وشولتز يحتفلان بمرور 60 عاماً على معاهدة الإليزيه في باريس لتعزيز تحالفهما بيوم من الاحتفالات والمحادثات حول أمن أوروبا والطاقة والتحديات الأخرى.

وجه رئيس الوزراء البولندي مورافيكي لهجة شديدة القسوة إلى شولتز، مهدداً ببناء “تحالف أصغر” من الدول الأوروبية إذا لم توافق ألمانيا على نقل دبابات “ليوبارد2″، زاعماً أن  أوكرانيا وأوروبا ستنتصران في هذه الحرب مع ألمانيا أو بدونها، واتهم شولتز بعدم التصرف بما يرقى إلى مستوى إمكانات الدولة الألمانية، وتقويض أو تخريب تصرفات الدول الأخرى.

ووصل غضب مورافيكي إلى حد لا يمكن السيطرة عليه بقوله: “لقد كان السياسيون الألمان يأملون في خداع الروس من خلال الإغداق بعقود سخية، وأدت هذه السياسة إلى إفلاسهم، وحتى يومنا هذا تجد ألمانيا صعوبة في الاعتراف بخطئها التاريخي”.

مع اقتراب مرور الذكرى السنوية الأولى للعملية الروسية في أوكرانيا، امتدت الحرب إلى أوروبا، في الوقت الذي تكتسب فيه روسيا اليد العليا بشكل مطرد عسكرياً، ويطارد شبح الهزيمة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، إلا أن بولندا تزداد جنوناً، حيث ستكون هناك نقطة تحول قادمة بالنسبة لها لاستعادة “أراضيها المفقودة” في غرب أوكرانيا في حال انهار ذلك البلد ،على الرغم من أن ستالين قد عوض بولندا بأكثر من 40 ألف ميل مربع من أراضي شرق ألمانيا.

من غير المحتمل أن تكون أوروبا طرفاً في سياسة الانتقام البولندية، خاصة ألمانيا، ويمكن النظر إلى هذه المناورات السياسية الكاسحة على أنها محاولة للتكيف مع عالم الحرب الجديد، وربما أيضاً لإعداد أوروبا لما سيأتي لاحقاً.