مجلة البعث الأسبوعية

حسين عبد الكريم: الشعر من أجمل المجانين الذين ألتقيهم على مرّ الفصول

“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس

بدأ حسين عبد الكريم شاعراً، وكبار الكتّاب كانت بداياتهم مع الشعر، ولم ينتهوا به، أما هو فما زال الشعرُ عنده “نبعاً يحرص أن يحيا في مصير الجريان ومشيئة الضفة.. يغريني في الشعر أنه النبعُ والمشيئة التي لا تفنى جراء المشيئات الهزيلة والمرتجلة.. الشعرُ وجدانٌ عريق ولا يتكاثر كالدواجن، مع أهمية الدواجن وقيمتها المادية.. أجدني حزيناً من دون الوجدان، أتقهقرُ حين لا أكون مزدهراً، فالقصائد كيانات كالنساء.. ماذا يمكنني أن أكون لولا أنني وجداني وأزدهرُ في مواجهة البؤس الروحي وحضارة الزبد الهامشي هش الملامح”.

 

ما الذي يغريك بالشعر في زمن قلّ فيه الشعر وكثر الشعراء؟

– أكتبُ شعراً أو هو يكتبني، يكويني نزف جرح اللغة فأداويه وأتعامل معه بالمخيلة.. المخيلات الإنسانية تحب وتبحث في جراح الغيب عن واقعٍ يزنره التألق؛ ومن دون الشعراء، نصبحُ فقراء كالحاجات منتهية الصلاحيات.. الشعر أجدر ما عندي وما فيّ لأكون شبه الحياة كالعرائش التي تخطئ فن اليأس وكرامةً للعناقيد.. أنا شاعر ليس لأجل أحلامي، بل أحلام هذه الأم العريقة والعميقة، فهي العاصفة والسياج.. لا أترنح وسط زوابع المغرورين.. إنهم الزبد البطران.. الشعر طربٌ عجيب يشدني إلى الإنسان فيّ، لا أود أنني جملة عرضية مهما كانت مدللة، وأحب أنني حرف عاطفة في آخر سطر المحبين.. الشعر آخر وأول العواصف النضرة في كياناتنا الحلوة، وهو ثراؤنا غير الفاجر، أرى الكثير من الثراءات الفاجرة التي تغري غير الشعراء، الشاعر كائن نبي رغم قلة الحال والأحوال، تجمح في عقل البقاء كراماتٌ بسيطة حين نتمكن من شرحها نراها قصائد في غاية البساطة والوجدان، وهي عناقنا الكبير مع الحب.

 

اليوم وفي زمن الخراب والانهيارات الإنسانية.. أي شعر تكتبه؟ وبأي شكل وقد أبحرت في كل أشكاله؟

– الحرية شكل الأشكال، جوهرة تاج التفكير، أبحثُ في اللغة والأوزان والأفكار وفي العهود والعشق والأصدقاء والصديقات وعن موسيقا استثنائية هي الحرية التي لا تحتاج عمليات تجميل كالمطربات المعاصرات جداً.. حرية تلوذ بالآخر وتتكامل به، الحب أيضاً كالحرية موسيقاه ليست صاخبة كمحلات اللهو وأمكنة الصراخ الليلي والنهاري، الحب والحرية حبّان في جسد يتعاونان من أجل الكرامة، وحساسية الكرامة مفرطة، يجب عدم الإكثار منها لكثرة وجعها فهي كالتوابل نادرة المذاق يصعب فهمها والتنامي معها! الحب والحرية والكرامة من سلالة واحدة شرسة بهية تنتمي إلى الفقراء النبلاء ذوي المواهب، الفقر يصبح أعمى ويبطشُ بالإنسانِ كالموت، حين تتخلى الأعصاب والحواس عن الحب والحرية والكرامة، والتبجح كاللهو ومحلات الصراخ الليلي والنهاري وكالانهيارات، تصوّري أيتها العزيزة أن الجهل يتصدر صفحات وجدان العصر. لذلك أكتب الحنين الإنساني العريق وقناعات الأشجار العطشى، ولو أتلاقى بها عند آخر بيت من بيوت الريح، لا عافية في عيشنا من دون مساعينا الحميدة بحثاً عن الحرية والحب والكرامة.. الانهيارات والخرابات فقرٌ أسود، وجدانات متفحمة من كثرة النار العمياء المدمّرة التي تصنعها حضارة الفجور واللهفة المارقة الحارقة.. أكتبُ شعراً، وطناً، جمالاً وإنساناً يحب أو يفكر أنه يحب، أستفزُّ مصير أي قارئ كي يغدو أكثر حبّاً وتألقاً مع كراماته الإنسانية.

 

يطل الشاعر فيك في كتاباتك الروائية والقصصية.. هل يتسلل خفية أم تستعين به بشكل مقصود؟

– التسلل صفة نبيلة في القصيدة، كالأنوثة التي لا تعرف أن تتريث في البروق، يتسلل الشاعر في حسين عبد الكريم إلى كل المواقف وعبر كل التجليات، أستعينُ بالشعر في كل سلوك، ولا أعرف أن أتمرد عليه وهو الصديق المتربص بيّ ففي الحزن يرافقني إلى أقاصيّ، وفي الحرية الطليقة أراه دروبي، وفي اللغة يسبقني التعبير الشعري إلى الفاصلة والهمزة والنقطة وحروف العواطف، يموتُ فيّ الزمن، يتراخى عصر الإنسان حين لا أكونُ شاعراً في المزحة والتحيات الوجدانية والصداقات وأخجل من نفسي حين تهرب من مفرداتي أمجاد الشعر وتعابيره، بالشعر أتمرد على قناعات الحبر البائسة، يا ليتنا لا نقيم خارج اللغة الشعرية والعلاقات المسيّجة بالشعر وحنين الأماني الشعرية، الفقرُ يكبرُ كالحروب حين لا نكون شعراء ومحبين، الشعر من أجمل المجانين الذين ألتقيهم على مرّ الفصول: أعرفُ جيلاً من القصائد، وعصوراً من المراهقات، وحين آتي إلى كحل النساء أخشى عليّ من المفردات، وفي روايتي “حطّابون في غابات النساء” اللحظة صارت شعراً أيضاً وفي كل وقتي اللحظات الأجمل هي اللحظات الشعرية كالكروم لا تجيد الحياة من دون مزاج الأغصان، تمتدُّ أياديها للمصافحات والعطاء، أنا كالكروم لا أقدر أن أتفلّت من مزاج الشاعر واللغة الشعرية في أقل الكلام وأكثر الكتابات.

 

بعضهم يقول في الشعر: يجب أن لا نمعن في التفكير لأن الأشياء الجميلة يشوهها الفكر وعمق الترتيب والتصنع.. كيف تحافظ على الأشياء الجميلة في شعرك؟

– المشكلة في كل الوجود كيف نحمل مصائرنا الوجدانية وقناعات الجمال في أرواحنا، الحزن شرس أكثر مما ينبغي، أيّتها القصيدة يا صديقة الرجاء!، ذات مرة كتب صديقي الراحل فايز خضور: حسين عبد الكريم يكتب بعفوية مزدهرة، ولا يحب التنظير والخوض في غمار التنظير وأنا أرى التصنع جرأة سيئة على مزاج الإبداع، والفطرة المزدهِرة نبيّة لا مجال لهجرها أو التآمر عليها بكثرة التعقيدات وزحمة الأفكار الفضلى وعلاقة الشعراء كبيرة بالجنون البصير، وحين سألتني إحدى الكاتبات بماذا يختلف الشاعر فايز خضور عن الشاعر محمد الماغوط؟ أجبتها أن المبدع يختلفُ عن المبدع بالذي في بيت جسده من طفولات وأحلام وأحزان ليست اعتيادية، أيّة الشجرة يمكنها أن تحزن وتسقط أوراقها وتموت في عينيها أجمل الفصول، ولكن ليست أيّة شجرة بوسعها أن تكون خضراء وصديقة الهواء، وترقبُ قبلة عاشق، الشعر جميلٌ جداً كالطفولة المبدعة التي يروق للشاعر أن يحظى برعايتها.. الطفولة ترعى حواسنا الشعرية وأشواقنا، ومن خلالها أحتمي بالجنون النضير من الهلاك ولا أثق بمصائر المقعدين عاطفياً، أبحث في صباحات الجسد المتأخرة عن طفولات بديعة ما أمكن، جرح اللغة يترعرع ويشفى فقط حين يكون طفلاً بشكل متكرر وأنا شاعر طفل بشكل متكرر.

 

مسيرة غنية كنتَ فيها الشاعر والروائي والقاص والإعلامي.. اليوم إلام يميل قلبك وقلمك؟

– يميل قلبي للمحب الذي في كياني، في القصة أكتب للحب، ففي العام 1994 كتبتُ قصة “ثلاثية الخوف” وكان قرميد بطل الخوف فيها لا يملك رغيفاً، يملك جوعاً فقط، ويرتجف فؤاده إذ لا تقيم له حبيبته وزناً لائقاً، وتحرمه من لمسة حنين أو لفتة عينين أو غمزة زنار خصر يبحث عن الحب واللذات والأسرار الحلوة والأمنيات، لكنه لا يوفّق إلا إلى الخوف، تخاف أشجاره من يأس الجريان وتخاف أشواكه من نقص حاد في المشتاقات والمشتاقين، وهذا الشجن كتبته لاحقاً في روايتي “حارات المشتاقين”.

 

لماذا عدَّ النقد روايتك “الطاحونة” رواية مختلفة عن كل رواياتك السابقة؟

– لا أخوض في غمار التنظير والتأطير، الإبداعات تجارب صغيرة كالدموع، لا دمعة كدمعة، وحين تتشابه الدموع يموتُ البكاء، أشبه نفسي مفردات تجيء من جسد اللغة الجديد لا من الأجساد اللغوية السابقة واللغة جميعها قبلنا، الذي لنا وليس قبلنا هو أحزاننا، وحواس المفردات نشحذُ من الحياة خبرة لأصابعنا، وجنوناً جميلاً للمحابر و”الطاحونة” في طبعتها الأولى هي حزني الأول الجدير بثقة البقاء، وفي طبعتها الثانية فلسفة الغوار هي أيضاً حزني الشديد وحريتي اللغوية الأولى وحبي المبتهج وجراحي العاطفية في ساحة النبع ودوران الطاحونة.

 

بين الواقع والخيال.. من ينتصر في كتاباتك أكثر؟

– الواقع والخيال شقيقان لا بد من علاقتهما أو يموتان ميتةً خيالية وواقعية، الغيب هذا الجرح الذي لا تعرف جراحات اللغة، محاورته من دون وقائع، الخيال بيته الأول الواقع ثم يشتغل على حاله ويزهو بحضور المخيّلة، تصوري كاتباً لا يعرف واقعه، كم سيكون بائساً أو أنه لا يتأمّل المستقبل، ويحلم بحياة تتجدد ويبتكر صوراً تسمو بالواقع وحينها يكبرُ شغل الخيال، ويجب أن نعرف أن الطبيعة أم أولى للمخيلة وأنت تسألين أمام الخراب الذي يؤديه الإنسان المشوّه بالكسر والفتح، ماذا يكتب حسين عبد الكريم عن آفة الطبيعة؟ أجيبك لن أكتب عن الأم المهزومة لأجل أنها مهزومة، سأكتب عن مناصرتها الوجدانية الكبيرة بالوجدانات غير المشوهة بالكسر أو بالفتح، تفتننا أمومتنا الطبيعية المتماثلة للعافية، الفطرة الذكية، الألفة والمحبة، نتآمر أركان الحياة الصالحة للبناء ولا نتآمر كالمال الخبيث والثروات الضريرة النهمة وهمجية الجوع الصالحة للهدم، ثقافة معاصرة بالتسمية فقط، تقتلع شجرات الخيرات من عقل الأرَض، وتدمي فعله عين السماء والأفكار، لكن الأدب يبقى يتآمرُ والحياة والفكر الصالحة للغناء والحياة لا للفناء.

 

متى تتحول الكتابة عند الأديب حرفة بعيداً عن الإبداع؟

– حين يتوقف المجنون الجميل في الجسد عن الجمال، يتوقف الجسد عن الجريان النبض، وحين يتوقف الطفل الذي في الكتابة والأديب يصبح كائناً متقاعداً كأيّ جدول جاف، وكأيّ صانع أحذية يخطئ فن المسامير والنعال والجلديات، الإبداع الكبير ولو في سطر واحد أو قصة صغيرة أو مطلع قصيدة أو عنوان هو قدرة استثنائية على الجنون والطفولة، حين تتوقف حالة الطفولة وحالة الازدهار تصير الكتابة حرفة موجعة للرأس والبال.

 

هل صحيح أن كل رواية هي في جوهرها سيرة ذاتية أو قناع للمؤلف؟

– رواياتي أكثرها متأثرة بي، بل هي في أحيان عديدة تشبهني، أحاول كتابة امرأة من لحم ودم ولحن وموسيقا ورؤى فأراها تكتبني، تؤلفني عشرات المرات في لهجاتٍ ولهجات وحين أستطيع تأليفها تتمرد، تغمزني من جذوري، تعصفُ بلغتي ولا تترك فعلاً مضارعاً في مضارعته، يهطل جمرها على غابات الحكايات، تحرقها لتعيد خلقها في لهيب التجديد.

 

لغتك الأدبية علامة فارقة ميزت ما تكتبه.. متى كانت هدفاً في كتاباتك؟ ومتى كانت مجرد وسيلة؟

– اللغة جيبة تحيا في قمصان نومها، يقظة هائلة هي القيامة والنبع، اللغة كالأنوثة قلق مبدع وذروة لحظة في الازدهار أو انطفاء يود أنه انطفاء ويتعكز على أمجاد ليس في اللغة، لا توجد لغة أدبية فارقة إذ لا تهزّ القارئ، تجره وتقهر ضجره بالدهشة، يجب تمزيق آلاف ألبسة اللغة، حتى نعثر على لغة بسيطة كأشواقنا، طازجة كنهدات أنهار الحياة، اللغة حبيبتي الشرسة، تسرقني حين أكون إلى جنونها، وحين لا أكون لا تسرقني ولا أسرقها فقط أتسلى أو أعيش تحت وطأة الضجر.

 

حدثنا عن روايتك الجديدة.. أي جديد تحمله على صعيد الشكل والمضمون؟

– الرواية رواية الأصدقاء والحكايات واليوميات والأكثر من اليوميات وفي روايتي “حطّابون في غابات النساء” أشرتُ إلى مواقع الأشواق، والرواية التي بين يديّ “الحبر الآن” تتناول حكايات جمر الأصدقاء العشاق المجانين وهي حكايات معجونٌ لحنها بألف سؤال بلغة القصيدة، كلها أسئلة وكلّي قلق محبوب ومتعب، لكني لا أريده مأزوماً أو مهزوماً.