النظام الدولي بين خيارات الغطرسة الأمريكية والعقلانية الصينية
البعث الأسبوعية – د. ساعود جمال ساعود:
سبق أن حدّدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي جمهورية الصين الشعبية بوصفها الخطر الأوّل، كما نصّت على أن روسيا الحليف الوثيق للصين باعتبارها الثانية عالمياً من حيث الخطر على أمنها القومي على الساحة الدولية، وتواكبت الاستراتيجية مع الكثير من الاستفزازات الأمريكية للصين سواء سياسياً أم عسكرياً أم اقتصادياً، ابتداءً من التدخّل بشؤونها الداخلية “ملف تايوان” عبر تعزيز النزعة الانفصالية فيها.
وعلى الرغم من ذلك، كانت الصين ملتزمة بالتهدئة وتجنّب التصعيد، مرحّبةً بالتعاون والسلم الدوليين، ولكن التجاوزات الأمريكية استمرّت دون إحراز أي تفاهمات تُذكر لغاية انعقاد قمّة العشرين ومؤتمر ايبك، ورغم ادّعاء الرئيس الأمريكي جو بايدن تجنّب التصعيد الذي يوصل إلى حافة الخطر، مسمّياً ما بينه وبين الصين “بالتنافس”، ولكن بالمقابل فإن هذا التنافس له أدواته ومناطقه ومقتضياته ومحاذيره الخطيرة وضماناته من قبيل الوجود الأمريكي بتايوان بشكل غير مباشر بفرض رسم معادلات سياسية تضمن المصالح بالقوة تارة وبالتوافق تارة أخرى، وهذا ما ينطبق أيضاً على منطقة بحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط والقارة السمراء وغيرها.
فالمشكلة لا تكمن في التنافس، وفقاً لبايدن، بل بحدود هذا التنافس، ونلحظ أنّ الطرف الصيني يضبط إيقاع هذا التنافس لعدم إيصاله إلى مرحلة الخطر أو التوتر.
لقد صرّحت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، لنظيرها الصيني، ليو هي، بأنه “بينما لدينا مناطق خلاف، وسنتحدث عنها بشكل مباشر، يجب ألا نسمح لسوء التفاهم، ولاسيما ذلك الناجم عن نقص المحادثات، أن يؤدّي إلى الإضرار بعلاقاتنا المالية والاقتصادية”، معتبرة أن البلدين “يتحمّلان مسؤولية إدارة خلافاتهما ومنع المنافسة من التحوّل بأي شكل من الأشكال إلى صراع”، لذا فإنّ التصرّفات الأمريكية إزاء الصين تحتاج إلى تفسير وتحديد لأسبابها لأن الأمريكيين على ما يبدو مجبرون خاضعون في علاقتهم، والصين تحتاج إلى تفسير وتحديد لأسبابها، ولا تنمّ مواقف قادته عن الرضا أو التعاون البنّاء، والأدلّة على ذلك كثيرة وأهمّها موافقة مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون يحظر بيع النفط من الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي إلى الصين، الأمر الذي أثار استياء الجانب الصيني ودفع وانغ ون بين المتحدّث باسم الخارجية الصينية إلى دعوة الجانب الأمريكي للتخلي عن عقلية الحرب الباردة واللعبة الصفرية والتحيّز الأيديولوجي وخلق أعداء وهميين.
وفيما يخص تعامل الولايات المتحدة الأمريكية بعقلية الحرب الباردة، لاحظنا أنه بعد يوم من اتفاق واشنطن وطوكيو على تعزيز التعاون الأمني بينهما، وإعلان وزير الدفاع الأمريكي استعداد بلاده لاستخدام قدراتها النووية للدفاع عن اليابان، ما نجم عنه قيام طوكيو بتغيير عقيدتها العسكرية من دفاعية إلى هجومية مع مضاعفة ميزانيتها العسكرية.
ويترافق كل ذلك مع المحاولات الأمريكية المستمرة لتقويض النظام الاقتصادي الدولي، وقيامها بتسييس القضايا التجارية والاقتصادية، ناهيك عن التحيّز الأيديولوجي الذي تعمل الولايات المتحدة على تكريسه، ويهدف إلى خلق محور من الدول المؤيّدة له ضد الصين.
ويكمن التطوّر الجديد فيما أكدته مصادر مطّلعة، حول أن البنتاغون في المراحل الأولى من التخطيط لزيارات كيفين مكارثي رئيس مجلس النواب الأمريكي لتايوان، وبالطبع فإن تحليل هذا الإعلان يؤكد أن واشنطن ماضية في استفزاز الصين، بل تأكيد مراعاة الموقف الصيني بدليل تأكيد المصدر المطلع “ضرورة مراعاة كيفن مكارثي ردود الفعل الصينية على هذه الزيارة”، مع دعوته إلى ضرورة اتخاذ جميع “القضايا الأمنية” الواجبة الاتخاذ في حركة تعكس تخوّفهم الفعلي من غضب الصين من هذا النوع من الزيارات التي حذّرت منها مراراً وتكراراً.
أما من الناحية العسكرية فإن مسألة ضمان المصالح الأمريكية في الممرات المائية العالمية مسألة وجودية وحيوية بالنسبة لها، وفي سبيل ضمانها هي مستعدّة للتنافس الحاد ولممارسة الحرب النفسية وكذلك للتلويح بالورقة العسكرية وتحديث تحالفاتها، حيث شهدنا عملية محاكاة لمواجهة عسكرية بين الصين من جهة، والولايات المتحدة واليابان وتايوان من جهة أخرى، ولقد أدار المحاكاة مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية “CSIS” بإشراف مباشر من ثلاثة خبراء في مجال الأمن الدولي وكلية الدراسات البحرية، وتوصّل الخبراء إلى نتيجة واحدة على الشكل الآتي: “ستكون هناك أضرار بالغة لموقع الولايات المتحدة الأميركية لسنوات طويلة، إضافة إلى وجود اقتصاد مدمّر في تايوان، فضلاً عن فقدان عشرات السفن ومئات الطائرات وعشرات الآلاف من الجنود.
كذلك ادّعت المحاكاة أنّ الصين ستتكبّد خسائر ضخمة تصل إلى حدّ زعزعة استقرارها “حسب ادّعاءاتهم”.
وبالمجمل عكست عملية المحاكاة هذه احتمالات حصول سيناريو الصدام العسكري فعلياً بين الصين من جهة والأمريكي وحلفائه من جهة أخرى، وهذا ما يمكن فهمه على أنه تعبير عن مستوى القلق الأميركي من أي مواجهة مع الصين، ويبقى أن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بما في ذلك سلسلة مناوراتها العسكرية يصبّ في بوتقة التذكير بالمصالح الحيوية وإعادة تنظيمها وضبط الاتفاق حولها، لأن تفسير ما يجري بأنه تهديد بحرب أو بداية تجهيز لها هو تفسير غير عقلاني.
اليوم أغلبية دول العالم تُعنى في ظل الاستفزازات الأمريكية للصين بمعرفة المآل الأخير لهذه الاستفزازات، ولو حيّدنا الجانب الإعلامي الذي يظهر باستمرار أن الأوضاع على شفا حفرة من نار، وهذا ما تدركه الصين وتحذّر منه، بدليل دعواتها المتكرّرة للتعاون الدولي والتفرّغ للتنمية، انطلاقاً من العديد من الاعتبارات وأهمها أنّ الصين والولايات المتحدة أكبر اقتصادين في العالم، وعضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي، وتشتركان في مصالح واسعة النطاق في ضمان السلام والاستقرار العالميين، فإن معظم التحليلات والدراسات الحديثة عن قرب وقوع صدام عسكري بين الطرفين، وكأن الأمر غير محكوم بأية ضوابط، تبدو غير منطقية، حيث إنّ المنطق القائل بحدوث نتائج كارثية في حال وقع الصدام بينهما في غاية الواقعية، وهذا ما يدركه الأمريكي قبل الصيني، وإلا لما كان قد ركن في قمة العشرين ومؤتمر إيبك لضبط التنافس لكي لا يصل إلى حد الصراع، ومن هنا لا بد من الثقة تماماً أن اتخاذ الخطوات لتعزيز التعاون المتبادل سيفرض نفسه بأي موقف مستجدّ وبأي منطقة من مناطق النفوذ العالمي، فالحديث عن حرب بينهما لا يعدو كونه تسفيهاً للتحليل السياسي والمحاكاة المنطقية لطبيعة العلاقات بينهما.