مجلة البعث الأسبوعية

شعوب إفريقيا تبحث عن التنمية والتحرّر والخلاص

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:

تعمل دول الغرب جاهدةً في الوقت الراهن على تعزيز دعايتها لاستعادة التبعية الاستعمارية لها من دول إفريقيا حتى لو كانت قد أقرّت باستقلالها سابقاً، كما تزداد هذه التوجّهات مع احتدام صراعهم مع روسيا في ظل الحرب في أوكرانيا وسيناريوهاتها الهجينة، فنلحظ أن فرنسا وأمريكا تحذران ممّا سمّتاه “التغلغل الروسي” في القارة الإفريقية، واتهامها بتوزيع المساعدات الغذائية لـ”تثبيت نفوذها”، وكأنهما تنقلان الحرب الباردة نحو مناطق جديدة، ناهيك عن الوفود الكثيرة الأمريكية والأوروبية والبريطانية التي تنشط زياراتها إلى القارة لإقناع حكوماتها بالبقاء بعيداً عن محور الشرق، في إطار تتضافر فيه جهود الغرب لإجهاض محاولات إنشاء العالم متعدّد الأقطاب، في حين كان واضحاً حجم الترحيب الشعبي والرسمي الإفريقي بجولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأخيرة، الذي يأتي امتداداً لما سبقه من مظاهرات شعبية مطالبة بالتدخّل الروسي لإنقاذ شعوب القارة وطرد فرنسا والغرب منها.

مشاعر الشعوب الإفريقية أصبحت سلبيةً جداً تجاه جميع دول الغرب وفي مقدّمتها فرنسا الاستعمارية، التي اقترن وجودها بزيادة نهب ثروات القارة وانتشار الفقر والمجاعات وغياب الاستقرار السياسي، إضافةً إلى كثافة ظهور التنظيمات التكفيرية المتطرّفة في دول إفريقيا، فبعد أن أوجدت قاعدةً لها شمال مالي بحجّة المساعدة بمكافحة بعض الجماعات التابعة لتنظيمي “داعش” و”القاعدة” قبل عدة سنوات، لوحظ تمدّد تلك التنظيمات الإرهابية المتطرّفة نحو مناطق أخرى في مالي وصولاً إلى بوركينا فاسو وساحل العاج وتشاد والنيجر، وأصبحت ذريعة فرنسا في “محاربة الجماعات التكفيرية” ليست محدّدة بمكان أو زمان بهدف تثبيت وجودها في دول الساحل الإفريقي، لتتحوّل إلى نوع من الاستعمار بطريقة جديدة وخاصةً مع إمعانها في خلق مشكلات الهجرة غير الشرعية للسكان وإيقاف جميع عمليات التنمية في تلك البلدان، ونشر عملاتها الاستعمارية بعد سيطرتها على قطاع المصارف، وتدخّلها في الانقلابات المدبّرة المتعدّدة التي جرت وعمليات تزوير الانتخابات، فضلاً عن الشركات التي نهبت كل قطاعات تلك البلدان، ولكن رغم كل ذلك نشهد الآن حركةً من الانسحابات الفرنسية بالجملة منها، فالوضع لم يعُد مواتياً لفرنسا التي أقرّت على ما يبدو بخسارة نفوذها وتغيّر خريطة قوى العالم الجديد، وافتضاح ممارساتها في استغلال ونهب موارد القارة السمراء، وانتقادها حتى من جاراتها من الدول الأوروبية.

إن شعوب إفريقيا بعد تحلّيها بالوعي تبحث من خلال حراكها الأخير عن قوىً جديدة تساعدها في النهوض وترتبط معها بعلاقات تحالف ثنائية لا بعلاقات استغلال طرفٍ لطرف، حيث أبدت ترحيبها بدخول روسيا إلى القارة من خلال اتفاقيات للمشاريع النفطية، وتعزيز المصالح الاستراتيجية المتبادلة وتدريب جيوش في بلدان “غينيا، وموزامبيق، وإفريقيا الوسطى، وليبيا، ومدغشقر، ومالي، والسودان”، وإمدادها بالسلاح، إضافة إلى توقيع عشرين اتفاقية عسكرية، ومساعداتها الحثيثة في إرساء الاستقرار الأمني، ناهيك عن تعاونها مع دول القارة في مجالات التعدين والطاقة النووية وغيرها من المشاريع الاستثمارية البالغ حجمها نحو 12 مليار دولار، وإذا ما قارنا ذلك مع فرنسا وغيرها من القوى الغربية نجد أن دخولهم القارة لم يحدث أية نواتج صناعية أو تكنولوجية أو حتى ثقافية أو تنموية في أي صعيد كان، بل أخذ شكل السطو والاستغلال دون النظر لتلك الدول على أنها حليفة، وهذا التباين يسبّب سخونة شديدة وغضباً من الجانب الغربي ضدّ تحالف وتقارب روسيا، وإلى جانبها الصين في المنطقة.

كذلك فإن إستراتيجية موسكو التي اعتمدت منذ عدة أعوام على تنفيذ مشاريع اقتصادية عبر شركاتها، تترافق الآن مع عودة الاستقرار الأمني الملحوظ الذي بدأ في مالي، وكُلّل النجاح بقيام الشعب بطرد القوات الفرنسية من البلاد واستلام سلطة وطنية لحكومة باماكو، لتنتقل عدواه نحو بقية دول الساحل الإفريقي.

على المحور الآخر من التحالفات نجد الدور الفعّال والمهم للصين في القارة، ومدى مخاوف الرئيس الأمريكي جو بايدن تحديداً من تنامي دورها السريع، حيث نجده الآن يطلق وعوداً بضخ عشرات مليارات الدولارات في دول القارة بعد فتور دور واشنطن فيها خلال فترة الرئيس السابق دونالد ترامب الذي تنكّر لوعود أمريكا ضمنها بشكل تام، ما أدّى إلى فقدان الثقة بشكل تام بدور الإدارة الأمريكية في إفريقيا، بينما تقوم الصين في الوقت نفسه بإنشاء قاعدة عسكرية دائمة لها في غينيا بعد تلك التي أنشأتها في جيبوتي، وعلى الصعيد الاستثماري الذي تتميّز به بكين بلغ حجم استثماراتها في القارة نحو 400 مليار دولار، كما تجاوز حجم التبادل بين بكين ودول إفريقيا الـ250 مليار دولار في غضون العامين الأخيرين فقط، وأدخلت الصين نحو 10 آلاف شركة و200 ألف موظف إليها، ولكن الأمر الأهم بالنسبة للشعوب الإفريقية هو ما تتركه الصين من بصمات واضحة في تحسين جميع المجالات وأبرزها تنمية قطاعات المواصلات والسكك الحديدية والمطارات ومشاريع التنقيب والطاقة والصناعة وهياكلها الأساسية، والتكنولوجيا، وصولاً إلى المشاريع التعليمية والثقافية، وبشكل يثبت أن الصين لم تأتِ لمجرّد التنقيب والحصول على المواد الخام بل أتت لتفيد أيضاً وتحقق المصالح الثنائية.

مهما حاولت قوى الغرب التحذير من دخول قوى الشرق إلى القارة السمراء، فإن الفرق شاسع جداً ولم تعُد الشعوب الإفريقية تنطلي عليها الحيل والوعود الجوفاء، بعد أن تبيّن لها أن دول الشرق تنفّذ المشاريع دون أي شروط أو تدخل في السياسة الخارجية للدول، أو تعيين طغم فاسدة لديهم لتحقيق أي مآرب، كما أن تلك الشعوب أصبحت تتمتع بالوعي والرغبة في إحراز التقدّم والاستقرار على جميع الصعد عبر التعاون مع دولٍ صديقة وحليفة وفي طليعتها روسيا والصين والهند وربما قريباً البرازيل العائدة لدورها العالمي بقوة، لقهر دول الغرب المستعمرة المتشدّقة بقيمها وعلبها الجاهزة للتدخل في شؤون أي دولة تزعم أنها تتحالف معها عبر سيناريوهات “حقوق الإنسان” وغيرها من الشمّاعات التي باتت مكشوفةً للقاصي والداني، والدور الآن أصبح متاحاً دون شك لأبناء إفريقيا وحدهم لبنائها بشكل مغاير مستفيدين من مقوّمات ثرواتها وموقعها وسط دول العالم الذي يسهّل حركة الشحن، ونهوض شبانها مستفيدين من تكنولوجيا الاتصالات والتواصل الاجتماعي.