طواحين حماه.. لازالت شاهداً في المكان
البعث الأسبوعية- ذكاء أسعد
تدور فيدور معها الزمان، فتذهب الروع ويحل بأهل المدينة الأمان، تصدر أصواتاً يقال لها “جعجعة” ولا ينطبق عليها المثل في هذه الأيام “أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً” فتلك الجعجعة كانت تطرب الكبار ويغفو على صوتها الأطفال الصغار، لتنتج طحيناً مباركاً قمحه مغطس بماء العاصي السلسبيل، يدخره الناس في بيوتهم فيصنع منه الخبز الأسمر في التنانير، ويرفهوا أنفسهم بالمحمرات وأنواع الحلويات.
كانت الطواحين من أهم المؤسسات الاقتصادية عندما اهتدى الإنسان القديم للقمح وجعله طعامه الأساسي فقد كانت تنتج عدة أطنان في اليوم الواحد للطاحون الواحدة، لكن غزو الآلة الحديثة سار بها نحو الزوال، ومن المحتمل أن سكان الشرق الأوسط هم أول من ابتدع الطاحون المائي مستفيدين من قوة المياه المنحدرة من المرتفعات والأنهار والمجاري المائية الأخرى، وتختلف تلك الطواحين بشكل أساسي حسب ضخامتها وشكل دولابها المتحرك بقوة الماء وكيفية تركيبه في الطاحون أفقياً أم عمودياً.
ظهرت الطواحين في عدة مناطق من العالم ورغم تعذر تحديد تاريخ الطاحون وابتداء نشوئها إلا أن أقدم عهد لها لا يتعدى الألف الرابع قبل الميلاد، ويرى رئيس الجمعية العلمية التاريخية في حماه عبد القادر فرزات أن التطور الهائل لهذه الطواحين كان على ضفتي نهر العاصي التي نظمت ضفافه وانتشرت عليه النواعير، لأن هذه الطواحين بالذات تحتاج إلى تنظيم دقيق بالنسبة لتنظيم المياه على الضفاف، وتحتاج لبناء مجموعات عمرانية معمارية للتحكم في الماء وجره للطواحين، وهذا ما أدى لتطور الطواحين بتقنية واضحة أدى لإدخالها ضمن المؤسسات الصناعية والاقتصادية ذات الإنتاج الآلي الكبير، ومعظم الطواحين المتواجدة في مدينة حماه هي من النوع المتطور التي غصت بها ضفاف العاصي ومؤلفة من ثلاثة أنواع وهي الرحى الشيبية والرحى الجبية وآخرها الرحى الجغلية التي تعتبر أكثر تطوراً من سابقتها حيث تقسم إلى طبقتين الطبقة السفلية فيها محرك الطاحون والطبقة العلوية فيها قاعة الطحن وأحجار الطحن ومستودع الحبوب واسطبل الدواب.
وأشهر الطواحين في حماه هي “الغزالة، الحلوانية، القاسمية، الحجرين، العونية، المظفرية، جنان، رعبون، كازو والباشية” واشتهرت عدة عائلات في حماه بعملها بالطواحين المائية كعائلة خلوف “جرابات” وعبو ووحود والحلبية وعائلة القناص “أبو زمر”، أما مهنة الطحان فقد شملت عدة مهن أخرى كالمغربل والمصول والعتال والنقار والدقاق.
ويؤكد فرزات وجود عدة طواحين في حماه في وقتنا الراهن وهي طاحونة الغزالة في ساحة العاصي وبجانبها طاحونة الأرامل أو التي تسمى الحلوانية وطاحونة القاسمية والحجرين ورعبون وطاحونة الباشية في محردة، وجميع هذه الطواحين لا تزال محافظة على وضعها العمراني الجيد كما تم ترميم عدد منها وفق معايير الترميم للحفاظ على هويتها التاريخية ولتبقى شاهداً حياً على ذاكرة الحمويين الأقدمين.
توقفت طواحين حماه فتوقف معها الزمان وافتقدت البيوت القمح المبارك وطحين العيش وحفلات التنور واجتماع الجميلات حوله وصوت ذلك المطرب الشعبي وهو يغني “مسعد ياتنور” بات الجميع ينتظر حصته من خبز الأفران ولا زلنا مع رغيف الخبز كل يوم نحن في شأن.