دراساتصحيفة البعث

العلاقات الصينية ــ الأوروبية والصراعات العالمية

ريا خوري

منذ بداية العام 2021، تمكنت جمهورية الصين الشعبية من الوصول إلى مكانة الشريك العالمي المهم والأول مع القارة الأوروبية، خلفاً للولايات الأمريكية التي حافظت على هذه المكانة لعدة عقود، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.

كانت الصين قد تمكنت من إقامة علاقات اقتصادية جادة مع دول الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، فقد تمكنت من زيادة صادراتها للدول الأوروبية في عام 2020 بحوالي 5.6% عما كانت عليه في عام 2019، كما ازدادت وارداتها من الدول الأوروبية بنسبة 2.2% مقارنةً بوارداتها من دول القارة الأوروبية في عام 2019، بينما اتجهت معدلات التجارة الخارجية للدول الأوروبية مع الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف السياسي والاقتصادي الأكبر لها، نحو التراجع، فقد انخفضت الواردات بنحو 13.2%، وكذلك الصادرات الأوروبية بحوالي 8.2%.

لقد شهدت العلاقات الصينية – الأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية حالة من عدم التوازن، وكانت علاقة تتراوح بين المد والجزر على خلفية التنافس التجاري الذي وصل إلى حالة صراع تجاري بينهما، ونتيجة القوة الاقتصادية الصينية شبه المطلقة على مجموعة من القطاعات  والصناعات الاقتصادية الاستراتيجية العالمية ذات الصلة القوية والأساسية بالصناعات التحويلية التي تحتفظ بها الصين بالريادة على المستوى العالمي. وعليه، فإنه على الرغم من المواقف الأوروبية والتحفظات على ما تعتبره تجاوزاً مستمراً من قبل جمهورية الصين الشعبية لقواعد التجارة العالمية المعمول بها، إلا أن الدول الصناعية الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا ما زالت في حاجة ماسة إلى الصين، وأسواقها من أجل تصريف منتجاتها، وبيع ما تنتجه من صناعات وآلات ثقيلة، وهذا ما دفعها إلى عدم مجاراة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وهما الحلف الأنغلو – أمريكي الذي يهدف إلى تصعيد المواجهة الجيوسياسية مع الصين.

إن القيادة الصينية سعت وما تزال تسعى إلى تجاوز التهديدات الاقتصادية والسياسية المستمرة  للاتحاد الأوروبي من خلال استثمار الخلافات الداخلية المتفاقمة لدوله والتعامل معها بشكلٍ منفرد ومدروس بعيداً عن وصاية مؤسسات بروكسل التي تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية بداخلها العديد من وسائل الضغط والقوة من أجل توجيه السياسة الأوروبية نحو المسارات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تخدم مصالحها ومصالح بريطانيا الحليف التقليدي لها.

الجدير بالذكر أنّ المؤتمر الثالث والعشرين الذي انعقد العام الماضي بين الصين والاتحاد الأوروبي بعد بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا كان مناسبة لتأكيد الجانبين على الطابع الحيوي لعلاقاتهما واستمرارها على أسس التوافق والتفاهيم، وتبادل المصالح المشتركة، خاصة أن المبادلات بينهما وصلت خلال عام 2021 إلى نحو  828 مليار دولار أمريكي في مجالات السلع والخدمات المتنوعة المختلفة.

في الواقع، يسعى الجانبان إلى تجاوز الخلافات السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تنشأ بينهما، وإلى الإبقاء على علاقات  اقتصادية وسياسية مستقرة بينهما من أجل المحافظة على مصالحهما المشتركة في شتى المجالات في سياق دولي يعرف تراجعاً ملحوظاً في مستوى الأداء الاقتصادي والتجاري لمجمل دول العالم، ويشكل الجانب الأوروبي في هذا المجال الحلقة الأضعف في سياق المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الصين، وتحاول العديد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، ، أن تخرج من هذه المواجهة قدر الإمكان بين العملاقين بأقل الأضرار الممكنة.

في هذا السياق، كانت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين، في تشرين الثاني العام الماضي، خيارا سليما لبناء جسور الثقة وتمتينها بين الصين وألمانيا من أجل تأمين مصالح البلدين. تلك الزيارة كانت مثار جدل ونقاش حاد وانتقادات عديدة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية كونها أكّدت أنّ الصين دولة قوية في العالم، ولا يمكن إغفالها، وغير قابلة للتجاوز أو للتجاهل، كما كانت فرصة للرئيس الصيني لمخاطبة ضيفه  الألماني، ومن خلاله كل  الدول والقوى الأوروبية بالقول: “إن تدمير الثقة السياسية  الكبيرة المتبادلة أمر سهل للغاية، ولكن إعادة بنائها أمر صعب جداً”، وهو ما اعتبرته أطراف سياسية غربية، وتحديداً أمريكية وبريطانية، بمثابة تحذير للمستشار شولتس ولبقية الدول والقوى الأوروبية الغربية من مغبة الانجرار وراء رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في تصعيد مواجهتها مع الصين خدمة لأجندتها ومصالحها الخاصة.

إن واقع العلاقات التاريخية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي يشير إلى أن العواصم الكبرى للقارة الأوروبية لا تريد أن تتحمل نتائج واستحقاقات الصراع الاستراتيجي المفتوح بين الولايات المتحدة والصين في ما يخص قضايا عالمية جيوسياسية تتعلق بالهيمنة أكثر مما تتعلق بمسألة تغيير النظام العالمي السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.