أوكرانيا تنكأ الجراح بين أوروبا القديمة والجديدة
عناية ناصر
بعد مرور عام تقريباً، لا يزال الصراع الروسي الأوكراني محتدماً بآثاره غير المباشرة، حيث تجذب التناقضات بين أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة، وتحديداً أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية الانتباه والمخاوف بشأن قارة مقسّمة. وفي الوقت نفسه، تظهر الخلافات بين شمال وجنوب أوروبا أيضاً، ما قد يتسبّب بمزيد من الاضطراب للوحدة الأوروبية والتنمية المستقبلية.
ينتمي كلّ من شمال وجنوب أوروبا إلى أوروبا القديمة. وعلى عكس دول وسط وشرق أوروبا، التي تعلق أهمية أكبر على مصالحها العملية وسيادتها الوطنية، تميل أوروبا الشمالية والجنوبية إلى دعم التكامل الأوروبي. ومع ذلك، أصبح من الصعوبة بمكان التوفيق بين تناقضاتهما المتراكمة خلال العقد الماضي.
لقد مرّ الاتحاد الأوروبي بأزمة تلو الأخرى، بما في ذلك أزمة الديون السيادية، وأزمة اللاجئين، ووباء كوفيد-19، والآن مع الصراع بين روسيا وأوكرانيا يتعرّض جنوب أوروبا لضربات أشدّ، إضافة إلى أن فجوة التنمية الاقتصادية مع أوروبا الشمالية آخذة في الاتساع.
على سبيل المثال، تعتمد دول جنوب أوروبا بشكل عام على قطاع السياحة، في حين أن التأثير على التصنيع في بلدان شمال أوروبا يمكن التحكّم به نسبياً. علاوة على ذلك، إن بلدان جنوب أوروبا لديها مستويات ديون عالية، وزادت مساعدة الشركات خلال الوباء من زيادة الدين والعجز المالي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الإعانات المقدمة للشركات في بلدان جنوب أوروبا ليست كبيرة مثل تلك الموجودة في بلدان شمال أوروبا، ونتيجة لذلك، أصبحت الشركات في الجنوب الآن في وضع غير موات أكثر من حيث المنافسة الاقتصادية.
أثرت أسعار الطاقة المرتفعة التي سبّبتها الأزمة الأوكرانية بشدة على دول جنوب أوروبا مرة أخرى، وخاصة إيطاليا، حيث لا تستطيع دول جنوب أوروبا إنفاق المزيد من الأموال لدعم الشركات، بينما يكون بإمكان دول الشمال الثرية إنفاق الأموال. لقد أدّت الانقسامات والتناقضات الاقتصادية طويلة المدى إلى تسريع الاستقطاب الاجتماعي والسياسي للدول الأوروبية، حيث تواجه كلّ من دول الجنوب والشمال ضغوطاً شعبوية متزايدة مناهضة لليورو، ومعادية للاتحاد الأوروبي، ومناهضة للاندماج داخل بلدانهم بدرجات متفاوتة، مما يحدّ من التعاون بين الحكومات على مستوى الاتحاد الأوروبي. يمكن القول بشكل عام، إن النزاعات بين الشمال والجنوب تتركز داخل الاتحاد الأوروبي في ثلاثة جوانب:
- الجانب الأول هو ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يريد أن يكون أكثر وحدة، أو أكثر كفاءة، فيما يتعلق بالسياسة المالية، حيث تأمل دول جنوب أوروبا أن تقوم منطقة اليورو بإصدار سندات بشكل مشترك بسبب ديونها الكبيرة ومعدلات فائدة الديون المرتفعة. كما تشعر ألمانيا ودول أخرى بالقلق إزاء ما يُسمّى بالمخاطر المعنوية، أو خطر فقدان بلدان جنوب أوروبا الزخم في الإصلاحات الهيكلية إذا لم يكن هناك ضغط في السوق، وكان الاتحاد الأوروبي قد أطلق خلال الوباء صندوقاً للإنعاش، لكن الحجم كان محدوداً.
- الجانب الثاني هو ما إذا كان ينبغي أن تكون السياسة النقدية للاتحاد الأوروبي أكثر مرونة أو أكثر تشدداً. على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك استجاب البنك المركزي الأوروبي بشكل أساسي لمخاطر الانكماش من خلال تنفيذ سياسة التيسير الكمي، وشراء كمية كبيرة من السندات الوطنية للدول الأعضاء، والتي هي في الأساس تسييل مالي. تعتبر هذه السياسة ودية للغاية لبلدان جنوب أوروبا، لأنها خفضت عوائدها المرتفعة على السندات الحكومية لمساعدتها على الابتعاد عن أزمة الديون. ومع ذلك، في عام 2022، كان التضخم في الغرب مرتفعاً، ويرجع ذلك جزئياً إلى الأثر اللاحق لهذه السياسة، وكذلك كان حال ذلك الاتحاد الأوروبي. لذلك قام البنك المركزي الأوروبي بتغيير سياسته واستمر في رفع أسعار الفائدة، وقد أدى ذلك إلى اتساع الفجوة في أسعار الفائدة بين الجنوب والشمال.
- الجانب الثالث يكمن في ما إذا كان ينبغي أن تميل الموارد الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي أكثر نحو الجنوب أو الشرق، فلطالما ارتبطت جنوب أوروبا ارتباطاً وثيقاً بالشرق الأوسط وأفريقيا، وتأمل أن يستثمر الاتحاد الأوروبي المزيد من موارده للحدّ بشكل أساسي من تدفق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. من ناحية أخرى، تولي دول الجزء الشمالي من أوروبا مزيداً من الاهتمام لأوروبا الشرقية، وشمال القوقاز وآسيا الوسطى. بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، تمّ تخصيص معظم الموارد الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، وانخفضت مساعدة الاتحاد، واهتمامه بأفريقيا والشرق الأوسط بشكل كبير. وعلى الرغم من أن دول جنوب أوروبا أبدت تضامناً بشأن قضية أوكرانيا لأسباب مثل الصواب السياسي، إلا أنها في الواقع لا تأخذ ما يُسمّى بـ”التهديد الروسي” على محمل الجد.
لقد أظهر التاريخ والواقع أن الاقتصاد في جنوب أوروبا ضعيف، بينما الاقتصاد في الشمال قويّ، وسيكون من الصعب عكس هذا النمط، وبدلاً من ذلك، قد تتفاقم الأمور على المدى القصير. ومع استمرار اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب، ضاع التوازن بين شطري أوروبا، وأصبح الاتحاد الأوروبي واقعاً في مأزق.
وحتى في ظلّ السياسة الانتخابية، لم يتمكّن الاتحاد الأوروبي من إيجاد حلّ فعّال للتخفيف من حدة الموقف بدلاً من اختيار سياسة المماطلة والتسويف. ومع ذلك، من المرجح أن التوترات المتراكمة لهذه الصراعات ستخرج بشكل مكثف، مما يزيد من عدم اليقين بشأن التنمية المستقبلية للاتحاد الأوروبي، وسيؤدي عدم اليقين هذا بدوره إلى إعاقة إمكانات التنمية في أوروبا، وسيؤدي ذلك إلى تشكيل حلقة مفرغة.