الأداة الأكثر استخداماً في ترسانة واشنطن.. الشعب السوري تحت وطأة العقوبات الأمريكية
“البعث الأسبوعية” – عناية ناصر
إن سلاح العقوبات الغربية ليس بجديد على سورية، لكنه أصبح منذ عام 2019 سلاحاً فتاكاً دمر قطاعات سورية بأكملها وإلى قتل شعبها، فبعد حوالي 83 عاماً من استخدام العقوبات ضد ألمانيا في عام 1940، أصبحت العقوبات الاقتصادية الأداة الأكثر استخداماً في ترسانة واشنطن لإخضاع الدول التي تعتبرها معادية لها، كما أصبحت العقوبات سياسة موازية أو بديلة للغزوات العسكرية، خاصة بعد ترسيخ الدولار كعملة مهيمنة في العالم من خلال ربطه بالنفط في عام 1975، وعززه انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991.
لقد تسبب هذا السلاح المالي والاقتصادي الأمريكي في معاناة سورية على مدى عقود طويلة، لكن تأثيره أصبح قاتلاً في السنوات الأخيرة، خاصةً بعد عام 2019، وانعكس تأثير هذا السلاح سلباً على جميع القطاعات الحيوية للاقتصاد، من الطب إلى التعليم، والطاقة، والاتصالات، والزراعة، والصناعة، وصولاً إلى التعامل مع الكوارث الطارئة، مثل الزلزال الذي ضرب سورية صباح يوم السادس من شباط، مما أدى إلى وقوع ضحايا بأعداد هائلة وإصابات جماعية وتدمير آلاف المنازل.
لقد بات تأثير العقوبات الغربية والاحتلال العسكري الأمريكي لسورية واضحاً، وذلك من خلال شل اقتصاد البلاد، وتقويض قدرتها على الاستجابة للكوارث الطبيعية الكبرى من هذا النوع، ونتيجة لهذا الوضع الكارثي طالب مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيان أصدره في 6 شباط الجاري برفع فوري للعقوبات عن سورية حتى تتمكن دمشق من التعامل مع التداعيات الإنسانية للزلزال المأساوي، ودعا المجلس المجتمع الدولي إلى تقديم مساعدات طارئة سريعة للمنطقة.
وكانت سورية قد تعرضت في عام 1979 لعقوبات واشنطن لأول مرة، وذلك بسبب دعمها لإيران في حرب الخليج الأولى، وأدى ذلك إلى أزمة اقتصادية خانقة، عرفت باسم ” أزمة الثمانينيات”.
بعد أقل من عقد من الزمن على الازدهار الاقتصادي في سورية، حيث زاد الناتج المحلي الصافي بنحو 49 في المائة بين عامي 2000 و 2010،اندلعت الحرب المدعومة من الخارج عام 2011 ضد سورية، وأدت إلى تأثيرات هائلة على الاقتصاد السوري، وإلحاق أضرار واسعة النطاق بكل من بالمنشآت والقطاعات الاقتصادية نتيجة التدمير المباشر لها من قبل الإرهابيين، كما استهدفت سلسلة من العقوبات بقيادة الولايات المتحدة صناعات الأدوية، والرعاية الصحية المحلية في سورية، والتي بلغت ذروتها مع “قانون قيصر” لعام 2019، و”قانون الكبتاغون” العام الماضي.
قبضة مزدوجة
على عكس معظم الحالات التي تستخدم فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي والناتو عقوبات اقتصادية لفرض حصار اقتصادي خارجي على الدول، إلا أن العقوبات المفروضة على دمشق كانت مصحوبة بحصار داخلي إضافي، وذلك من خلال السيطرة العسكرية الأجنبية على موارد النفط، وسرقته، وعلى الحقول الزراعية الحيوية في الجزيرة السورية، التي تعتبر”سلة خبز الشام”، والتي تخضع لميليشيا “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة. وبذلك كانت دمشق تخضع لسيطرة مزدوجة من خلال حرمانها من نفطها، المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي، ومن مبيعات الطاقة التي تشكل حوالي ربع عائدات الصادرات السورية، وتغطي 90٪ من احتياجات السوق المحلية.
قبل الحرب، أي في عام 2010، أنتجت سورية 4 ملايين طن من القمح، وهو غذاء زراعي استراتيجي أساسي يوفر الاكتفاء الذاتي الغذائي، وكان يتم تصدير حوالي ربعه. واليوم، لم تفقد البلاد إمكانية الوصول إلى أراضيها الزراعية الحيوية فحسب، بل إن العقوبات الغربية تمنع دمشق من استيراد هذه المواد الأساسية لإطعام شعبها، وقد أدى ذلك إلى تفاقم آثار الحصار على الشعب السوري، الذي يمر حالياً بواحدة من أشد الأزمات المعيشية والاقتصادية والصحية في تاريخه الحديث، وأصبح عاجزاً عن تأمين احتياجاته اليومية الأساسية من الخبز والدواء.
وفي هذا الشأن قالت صادر مطلعة إن دمشق تتحمل أعباء مضاعفة لتأمين السلع الأساسية، لأنه ليس بالإمكان استيرادها مباشرة، وأشارت المصادر إلى قيام واشنطن بمنع وصول أي ناقلات نفط سواء عن طريق احتجاز الشحنات، أو من خلال إدراج ناقلات النفط المشاركة في قوائم العقوبات الأمريكية في تضييق للخناق على الشعب السوري.
كما وتواجه سورية في ظل العقوبات، صعوبات كبيرة في إعادة بناء قطاعات الزراعة، والصناعة، والطاقة، والتعليم، والرعاية الصحية الرئيسية التي دمرت في الحرب، والتي لعبت فيها واشنطن دوراً كبيراً فيها، حيث منعت تلقي المساعدة من دول صديقة خوفاً من أن يساعد ذلك في تكوين علاقات سياسية واقتصادية سورية أوثق مع خصوم واشنطن.
عقوبات على العقوبات
تعود معظم العقوبات أحادية الجانب ضد سورية إلى عام 2011 عندما وسع الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما الإجراءات العقابية الحالية بموجب قانون “محاسبة سورية” عام 2004، ووشملت العقوبات الجديدة حظراً على الرحلات الجوية ، وقيوداً على صادرات النفط ، وقيوداً مالية على الكيانات والأفرا ، وتجميد الأصول السورية في الخارج، وحظر سفر المسؤولين وكبار رجال الأعمال السوريين، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. وفي عام 2019، سنت الولايات المتحدة “قانون قيصر” الخاص بسورية، والذي يمنح واشنطن سلطة فرض عقوبات على أي شخص، بغض النظر عن جنسيته، يقوم بأعمال تجارية مع سورية، أو يشارك في مشاريع البنية التحتية والطاقة، أو يقدم الدعم للحكومة السورية، أو يزودها بالسلع، أو يقوم بتقديم خدمات للجيش السوري.
واستكمالاً للعقوبات الجائرة ضد سورية، حظر الاتحاد الأوروبي في عام 2011، تصدير الأسلحة، والسلع وتكنولوجيا الطاقة إلى سورية، كما فرض أيضاً حظراً على استيراد النفط، والمعادن السورية، وأي معاملات تجارية ومالية مع قطاع الطاقة السوري، و تم توسيع هذه العقوبات في عام 2018 لتشمل تجميد الأصول وحظر السفر على الأفراد والشخصيات السورية. وفي سياق متصل فرضت بريطانيا عقوبات موازية على سورية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وحذت حذوها عدة دول حليفة لها، بما في ذلك كندا وأستراليا وسويسرا، كما فرضت بعض الدول العربية التي قامت بتغذية الحرب، وزيادة اشعالها مالياً ومادياً عقوبات عدة ضد سورية وشعبها.
كارثة إنسانية
إن التدهور المروع في الأوضاع الإنسانية والمعيشية في سورية، كنتيجة مباشرة للعقوبات القمعية أحادية الجانب التي تنتهك القوانين والمواثيق الدولية، دفعت الأمم المتحدة إلى إيفاد مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالتدابير القسرية أحادية الجانب وحقوق الإنسان، ألينا دوهان، إلى دمشق بين 30 تشرين الأول و 10 تشرين الثاني 2022 لتقييم تأثير العقوبات. قدمت المقررة الخاصة بعد زيارتها إلى سورية، و التي استغرقت 12 يوماً في بيان لها معلومات مفصلة عن الآثار الكارثية للعقوبات أحادية الجانب، والتي أثرت على جميع مناحي الحياة في البلاد، حيث ذكرت دوهان أن 90 في المائة من سكان سورية يعيشون حالياً تحت خط الفقر، مع محدودية الوصول إلى الغذاء، والمياه، والكهرباء، والمأوى، ووقود الطهي، والتدفئة، والنقل، والرعاية الصحية، وحذرت من أن البلاد تواجه هجرة للعقول بسبب المصاعب الاقتصادية المتزايدة. وأضافت دوهان في بيانها : “بما أن أكثر من نصف البنية التحتية الحيوية قد تم تدميرها بالكامل أو تضررت بشدة، فقد أدى فرض عقوبات أحادية الجانب على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء والتجارة والبناء والهندسة إلى القضاء على الدخل القومي، وتقويض الجهود المبذولة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي و إعادة الإعمار”. وذكرت مقررة الأمم المتحدة أن منع المدفوعات، ورفض عمليات التسليم من قبل المنتجين والبنوك الأجنبية، إلى جانب احتياطيات العملات الأجنبية المحدودة بفعل العقوبات، قد تسبب في نقص خطير في الأدوية، والمعدات الطبية المخصصة للأمراض المزمنة والنادرة، وحذرت من توقف عملية إعادة تأهيل وتطوير شبكات توزيع المياه للشرب والري بسبب عدم توفر المعدات وقطع الغيار، الأمر الذي أدى إلى تداعيات خطيرة على الصحة العامة والأمن الغذائي.
وحثت دوهان في ظل الوضع الإنساني المأساوي الحالي، والذي لا يزال يتدهور، حيث يعاني 12 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، على الرفع الفوري لجميع العقوبات الأحادية الجانب التي تضر بحقوق الإنسان بشدة، وتمنع أي جهود للتعافي المبكر، وإعادة البناء وإعادة الإعمار. وأضافت، لا توجد إشارة إلى أهداف جيدة للعقوبات أحادية الجانب تبرر انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، وأصرت على أنه على المجتمع الدولي الالتزام بالتضامن وتقديم المساعدة للشعب السوري.
مطالبات برفع العقوبات عن سورية
يلقي تقرير الأمم المتحدة مزيداً من الضوء على القطاعات السورية المستهدفة بالعقوبات، كاشفاً أن الاقتصاد السوري تقلص بنسبة تزيد عن 90 في المائة، وأن الأسعار ارتفعت أكثر من 800 في المائة منذ عام 2019، وفقدت مئات الآلاف من الوظائف، كما أن العقوبات تمنع استيراد المواد الغذائية والأدوية وقطع الغيار والمواد الخام والمواد اللازمة لاحتياجات البلاد والانتعاش الاقتصادي ، بحسب تقرير دوهان.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سورية تدفع أسعاراً أعلى بنسبة تزيد عن 50 في المائة مقارنة بالدول المجاورة للحصول على احتياجاتها الغذائية، وطالبت مقررة الأمم المتحدة برفع العقوبات أحادية الجانب التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على سورية على الفور، مؤكدةً أنها غير قانونية بموجب القانون الدولي. وحثت المجتمع الدولي، والدول التي تفرض العقوبات، على وجه الخصوص، على الانتباه للآثار المدمرة للعقوبات، واتخاذ خطوات فورية وملموسة لمعالجة الامتثال المفرط من قبل الشركات والبنوك.
يوضح تقرير مقررة الأمم المتحدة بوضوح أن تشديد العقوبات الأحادية، والقيود التجارية ولّد أزمة اقتصادية طويلة الأمد في سورية، مع ارتفاع مستوى التضخم وتراجع مستمر في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار.
كما منعت العقوبات دمشق من إعادة بناء البنية التحتية المتضررة خاصة في المناطق النائية والريفية، وتسببت في نقص في الكهرباء، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل يومي. وأشار تقرير الأمم المتحدة بشكل خاص إلى تدهور إمدادات المياه العامة وأنظمة الري، التي تعطلت إعادة تأهيلها بسبب عدم توفر المعدات وقطع الغيار، مما كان له تداعيات خطيرة على الصحة العامة والأمن الغذائي، وذكرت أن نقص مياه الشرب في مساحات شاسعة من سورية قد يؤدي إلى تفشي العديد من الأمراض.
القطاع الصحي
أوضح تقرير دوهان أن انقطاع التيار الكهربائي أدى إلى تعطل المعدات الطبية الحساسة وباهظة الثمن، والتي تعذر شراء قطع غيار لها بسبب القيود التجارية والمالية، وكشف أن 14.6 في المائة من السوريين يعانون من أمراض مزمنة ونادرة، وأن هناك عقبات أجنبية الصنع أمام شراء الأدوية، خاصة لمرضى السرطان، واحتياجات غسيل الكلى، وارتفاع ضغط الدم، والسكري، بالإضافة إلى أدوية التخدير، بسبب انسحاب منتجي الأدوية الأجانب من سورية، وعدم القدرة على استيراد المواد الخام والكواشف المخبرية لإنتاج الأدوية محلياً.
على الرغم من أن الأدوية والأجهزة الطبية لا تخضع للعقوبات بشكل مباشر، إلا أن غموض عمليات الترخيص وتعقيدها، وخوف المنتجين والموردين من العقوبات، يضمن أن الوصول إلى الحلول المنقذة للحياة يصبح أمراً صعباً للغاية، خاصة بعد اعتماد ما يسمى “قانون الكبتاغون” في واشنطن.
الزراعة والأمن الغذائي
بسبب نقص المياه والطاقة، والقيود المالية والتجارية، انخفضت كمية المدخلات الزراعية مثل الأسمدة والبذور والمبيدات والأعلاف وقطع غيار الآلات الزراعية، حيث انخفض إنتاج المحاصيل الزراعية في سورية من 17 مليون طن سنوياً عام 2000-2011 إلى 11.9 مليون طن عام 2021، وانخفض محصول القمح من 3.1 مليون طن في عام 2019 إلى أقل من 1.7 مليون طن في عام 2022. وبينما كانت سورية تاريخياً مُصدرة للقمح، فإنها تستورده الآن، مما يزيد العبء المالي على دمشق بشكل كبير.
استراتيجية خدمة لمصالح إسرائيل
تبرر الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوباتهم على سورية كوسيلة لممارسة الضغط على الدول لفرض تغيير في سياساتها. ومع ذلك، فإن التجربة الواسعة لهذه السياسة الأمريكية في العديد من البلدان تظهر بوضوح أن العقوبات هي في الأساس أداة سياسية تُستخدم لإخضاع الحكومات من خلال تدمير شعوبها. لقد أدت العقوبات المفروضة على سورية إلى أزمة غذائية خطيرة، حيث يواجه 12 مليون سوري انعدام الأمن الغذائي، ويعاني 2.4 مليون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي.
تستنزف هذه العقوبات موارد حياة الشعب السوري، والتي تعتبرها الحكومة السورية مرتبطة إلى حد كبير بصراعها مع “إسرائيل”، حيث يُنظر إلى الكيان الصهيوني على أنه المستفيد الأكبر من محاولة التدمير الممنهج لسورية.
تجدر الإشارة إلى المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالتدابير القسرية الأحادية، وحقوق الإنسان ستقدم تقريرها النهائي عن تأثير العقوبات إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أيلول 2023.