في ذكرى تأسيسها.. إذاعة دمشق صوت وطني بامتياز
أمينة عباس
احتفى المركز الثقافي (أبو رمانة) مؤخراً بذكرى تأسيس إذاعة دمشق السادسة والسبعين من خلال عقد ندوة أدارتها رباب أحمد مديرة المركز، وشارك فيها كلّ من الإعلامي محمد قطان، وهو واحد ممّن عايشوا بدايات الإذاعة وساهموا بالعمل فيها إلى جانب الرواد الأوائل، والإعلامي عدنان بكرو الذي يعدّ من أهم مذيعيها حالياً.
أقدم الإذاعات العربية
أشار قطان إلى أن إذاعة دمشق تعدّ من أعرق وأقدم الإذاعات العربية، بدأت في عهد الانتداب الفرنسي في 11 شباط 1942، وكان مقرّها في ساحة النجمة بدمشق قبل أن تنتقل إلى شارع بغداد مقابل معهد اللاييك، وكان يديرها ثلاثة أشخاص: سامي الشمعة، ويعتبر أول مدير لها، وكان نائبه نشأت التغلبي إضافةً إلى يحيى الشهابي، ويومها استقطبتْ جميع الفنانين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين المعروفين الذين كانوا يقدّمون جميع فنونهم الموسيقية والغنائية، ومن خلال الأندية الموسيقية التي تبوأت مكانة خاصة بفعل إنتاجها الذي اعتمدت فيه على إحياء التراث وعلى مؤلفات الموسيقيين العرب السوريين المعاصرين المتميّزين، وقد خصّت إذاعة دمشق ليلة لكل نادٍ من الأندية في دمشق قبيل نشرة الأخبار الثانية، وكانت الفترة الأولى تتألف من منوعات موسيقية وغنائية خفيفة، مشيراً إلى الثروة الموسيقية التي تركها توفيق الصباغ وجميل عويس، نصوح الكيلاني، وفريد صبري الذين قدموا أعمالاً فريدة من نوعها وهي من عيون الأدب الموسيقي الشرقي الرفيع.
وأسِف قطان أن هذه الأعمال عاثت بها الأيادي لتختفي نتيجة لجهل القيمين على شؤون الموسيقا بالأعمال الكلاسيكية الخالدة، مبيناً أنه وبعد الاستقلال أطلّت إذاعة دمشق الحالية في الثالث من شباط 1949 بصوت الأمير يحيى الشهابي الذي يعدّ أول من قال “هنا دمشق”، منوهاً بأن إذاعة دمشق كانت تعدّ ثاني إذاعة في الوطن العربي بعد إذاعة صوت العرب في القاهرة، وكان الشاعر سليم الزركلي أول مدير لها وقد ضمّ طاقمها حينها المذيعين نشأت التغلبي، صباح قباني، عبد الهادي البكار، عادل خياطة، سامي جانو، منير الأحمد، فاطمة البديري، توفيق حسن، خلدون المالح وكانت تبثّ من دمشق وتغطي كافة الأراضي السورية وجزءاً من الدول المجاورة بمعدل ساعتين متواصلتين ثم أصبحت ست ساعات يومياً، وقد استطاعت أن تجري نقلاً خارجياً لأول مرة بمناسبة احتفالات عيد الجلاء في السابع من نيسان عام 1946.
الدراما الإذاعية
وبيّن قطان أنه خُصِّص للدراما الإذاعية في إذاعة دمشق مساحات من البث توازي أهميتها، وكانت الأعمال الدرامية تبثّ مسجلة على الهواء مباشرة، وأن أهم من عمل فيها القصاص الشعبي حكمت محسن، عبد اللطيف فتحي، فهد كعيكاتي، أنور البابا، نهاد قلعي، رفيق سبيعي وتيسير السعدي الذي أصبح فيما بعد مخرجاً ناجحاً ومعروفاً، بالإضافة إلى أحمد أيوب ودريد لحام، واستطاعت أيضاً أن تستقطب المواهب الغنائية واهتمّت بالغناء السوري والعربي، وساهمت بازدهار الأغنية العربية فقدّمت أسماء عديدة في هذا المجال ومنها: نجيب السراج، رفيق شكري، فايزة أحمد، وديع الصافي، عبد الحليم حافظ الذي غنّى أغنية “صافيني مرة” وبثّها عبر هذه الإذاعة لأول مرة، مبيّناً أنها أحدثت معهد الموسيقا الشرقية الذي أخذ على عاتقه صقل المطربين والملّحنين والكورال بأسلوب علمي حديث.
ذكريات
كما تحدّث قطان عن كثير من الذكريات الرائعة له في هذه الإذاعة التي عمل فيها لفترة طويلة، ورأى أن متعة الذكرى هي متعة كفاح ونضال والجهد الذي كان يُبذَل في سبيل أن يظهر العمل الإعلامي في أروع صوره شكلاً ومضموناً، لأن أي تهاون في العمل الإعلامي حينها كان يؤثر على صاحبه، وأنه رغم قلّة الإمكانات في تلك الفترة الزمنية من بدايات العمل الإعلامي إلا أن العناية الشديدة والدأب المستمر للوصول نحو الأفضل هو الذي كان يجعل الإعلامي يستمر في عمله بنجاح، وقد نجح المذيعون الأوائل برأيه بتأسيس تقاليد إعلامية، فقد كان العمل الإعلامي بالنسبة لهم شيئاً جديداً ومع هذا أبدعوا فنوناً لم تكن معروفة من قبل.
مئات الجوائز
رأى عدنان بكرو أن هناك محاولات لإعادة البريق لهذه الإذاعة التي تعاني من تراجع خطير رغم ما تمتلكه من بعض الكوادر الناجحة، مذكراً بالجوائز التي حصدتها إذاعة دمشق من خلال مشاركتها في كثير من المهرجانات العربية، التي كان ينظمها اتّحاد الإذاعات العربية أو اتحاد غرب آسيا للإذاعات، وقد حصدت إذاعة دمشق مئات الجوائز في مشاركاتها، منوهاً بالمخرجين الإذاعيين الروّاد الذين تعاقبوا على إذاعة دمشق، موضحاً أن الإذاعة كانت منارة غنية بالمعرفة ومنبراً حضارياً فريداً ساهم في نشر الثقافة، وقد اعتمدت على اللغة العربيّة السليمة أساساً ممنهجاً للعمل فيها، وهي اليوم جزء من تراثنا وذاكرتنا وذاكرة الأجيال المتعاقبة.
أغنى المكتبات الإذاعية
وتوقف بكرو في حديثه عند أرشيف إذاعة دمشق، مبيّناً أنه كان من أغنى المكتبات الإذاعية في الوطن العربي نظراً لتاريخه الطويل، وكان يضمّ آلاف الأشرطة والأسطوانات المليئة بنتاج الإذاعة والتلفزيون، وفيها تاريخ طويل وذاكرة ثمينة لا تقدّر بثمن، وهي تضمّ النسخ الأصلية لجميع حفلات أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومئات الأعمال الموسيقية لفرق موسيقية عربية وأجنبية، ومسرحيات وأعمال درامية ومسلسلات تاريخية، وأسِف بكرو أن هذا الأرشيف تعرّض للسرقة والفقدان والتخريب خاصة في فترة الحرب على سورية.
الإذاعة مستمرة
وفي تصريح لـ “البعث” أوضح عماد إبراهيم، مدير الفضائية السورية والذي سبق وأن شغل عدة مناصب في الإذاعة، أنّ إذاعة دمشق من الإذاعات العربية العريقة، ولها سمعتها الطيبة لدى المستمعين محلياً وعربياً، وهي عبر العقود التي مرّت عليها كانت منبراً لكلّ القضايا الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية للدولة والمجتمع السوري، واستطاعت أن تحقق حضوراً لها من خلال الدراما الإذاعية، مؤكداً أنها ما زالت تتابع حضورها ورسالتها الإعلامية رغم اكتظاظ الفضاء بالعديد من الإذاعات ووسائل التواصل المختلفة، وأنها ما زالت مدرسة للإعلام الحقيقي والجاد من خلال الشخصيات التي رفدت الإعلام التلفزيوني، لذلك وبمناسبة عيد الإذاعة تقدّم إبراهيم إلى زملائه بإذاعة دمشق بالتهنئة، متمنياً أن يتابعوا مسيرة السابقين الذي كانوا يتمتّعون بخصال إعلامية متميزة، مؤكداً أنها ستبقى كما عهدتُها صوتاً للناس وقضاياهم الاجتماعية وعاكسةً للمشهد الثقافي في سورية، وهي التي كانت في الحرب التي مرّت على سورية صوتاً وطنياً بامتياز، مبيناً أن كلّ العاملين في الإذاعة حريصون عليها وسيستمرون على نهج روادها، منوهاً بأن أكبر تحدٍّ تواجهه اليوم وتواجه الإعلام المسموع عموماً هو طغيان وسائل التواصل الاجتماعي، وهو تحدٍّ قوي وخطير ولكن علّمتنا التجارب السابقة أن لكل وسيلة مكانتها، فكلّ منّا اليوم في لحظة معينة قد يتواصل مع إحدى هذه الوسائل، لذلك ستبقى الإذاعة مستمرة كبقيّة الوسائل الأخرى. أما التحديات الأخرى فتتعلق اليوم برأيه بالإمكانيات التي يتمتع بها العاملون فيها على صعيد الثقافة وحاجة الدراما الإذاعية إلى كتّاب يحققون حضوراً كما حقق السابقون، مشيراً وهو اليوم مدير للفضائية السورية إلى أنه ما زال يقدّم برامج إذاعية ولم ينقطع عن الإذاعة التي تحقق له المتعة، وهذا ما جعله يختار العمل فيها في بداياته رغم أن فرزه كان لمصلحة التلفزيون، ولذلك هو حريص اليوم على تقديم نشرات الأخبار فيها وبرامجه “من ثقافات العالم، وصحافة وثقافة” وغيرها.
