بين تبرعات ودعم نفسي وصلوات الأشقاء العرب يقدمون ملحمة من الدعم والمساعدات للشعب السوري
البعث الأسبوعية- هيفاء علي
اليوم وبعد مضي أكثر من 12 عاماً على الحرب الكونية العسكرية الشرسة التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ومولتها دول عربية وغربية، التي فشلت في تحقيق مآربها، والتي تلتها الحرب الاقتصادية المتمثلة في فرض العقوبات القاتلة على الشعب السوري وعلى رأسها ما يسمى بـ “قانون قيصر”، جاء زلزال في السادس من شباط ليحول سورية إلى مكان كارثي بكل معنى الكلمة، وليجعل الناس في كتلة بشرية غارقة في الألم والخراب، كما لو أنه لم يكن ينقص السوريون سوى وقوع زلزال مدمر لتزداد معاناتهم اليومية من صعوبات المعيشة الناجمة عن الحصار والعقوبات الغربية الجائرة التي حرمتهم من أبسط مقومات الحياة: الغذاء والمحروقات والدواء.
مصاب السوريون كبير، ولكن ما يخفف وطأة هذا المصاب هو تلاحم وتعاطف كل السوريين في الداخل والخارج مع بعضهم البعض، وتهافتهم لتقديم الدعم بكافة أشكاله لإخوتهم المنكوبين والمتضررين من الزلزال. كما لفت الأنظار حجم التعاطف العربي والأجنبي الكبير تجاه سورية عقب وقوع الزلزال، والذي كان منقطع النظير، حيث ارتفعت الأصوات حول العالم مطالبةً برفع العقوبات، وكسر الحصار المفروض على سورية.
وبين تبرعات ودعم نفسي وصلوات لم تفارق الحناجر، قدمت الشعوب العربية ملحمة من الدعم والمساعدات للشعب السوري، وبعيداً عن المواقف الرسمية للحكومات العربية إزاء هذه الكارثة، فإن الدعم الشعبي هو الأكثر مصداقية ونقاءً، حيث تحول إلى ما هو أشبه بانتفاضة انسانية مجردة من أي أبعاد اخرى، حيث لم يشهد الشارع العربي الذي يعاني من أزمات اقتصادية خانقة مثل هذا الحراك منذ سنوات طوال، في مشهد يعود بالذاكرة الى عامي 2000-2005 حين التحمت الشعوب العربية دعماً للشعب الفلسطيني في انتفاضته الثانية ضد الاحتلال الاسرائيلي.
كما هبت الدول الشقيقة والصديقة لإرسال المساعدات بكافة أشكالها إلى سورية، متحديةً العقوبات الأمريكية-الأوربية.
لا شك أن سياسة العقوبات الكيدية الظالمة هذه التي يستخدمها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ضد كل دولة ترفض املاءاته والخنوع لتعليماته، هي جريمة حرب موصوفة، وسلاح حرب في ترسانة الغرب الحربية، يشرعه في وجه كل من يعارضه وقت ما يشاء دون أي رادع أخلاقي أو قانوني، بل هو من ينتهك القانون الدولي وينتهك حقوق الانسان مع إفلات تام من المحاسبة والعقاب، حيث ظهرت عوائق كثيرة أثناء عمليات الانقاذ والبحث عن العالقين تحت الأنقاض جراء نقص الآليات والتجهيزات الخاصة التي تستخدم في إزالة الأنقاض، إلى جانب النقص الحاد في الوقود الناجم عن العقوبات الغربية. وتعد أبرز العراقيل التي تقف أمام وصول المساعدات إلى المناطق المنكوبة هو ما يسمى “قانون قيصر” الذي يتضمن فرض عقوبات اقتصادية وقانونية على كل من يتعامل مع الدولة السورية.
مع العلم أن سورية الآن بحاجة إلى مساعدات عاجلة لرفع الأنقاض، ومساعدات في المشافي الميدانية والأغذية والأدوية والرعاية الصحية، والأهم من ذلك السماح للوقود بالتدفق إلى سورية ذلك أن الجميع يعلم أن آبار النفط السورية وقعت تحت سيطرة الاحتلال الأمريكي ومرتزقته الإرهابيين من جهة، وتحت سيطرة ميليشيا “قسد” من جهة أخرى، حيث تقوم قوات الاحتلال الأمريكي بسرقة النفط السوري، وبيعه على مرأى العالم أجمع، تماماً كما قامت بسرقة القمح السوري، مع العلم أن سورية كانت تتمتع بالاكتفاء الذاتي من القمح قبل تعرضها للحرب.
رفع العقوبات جزئياً… قرار خادع ومضلل
أمام حجم الدعم العربي والأجنبي لسوريه، وأمام هول الفاجعة وتصاعد مشاعر الغضب الشعبي في كل أنحاء العالم، المناهضة للسياسة الإجرامية التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه سورية، والتي ساهمت في تدميرها وسرقة ثرواتها الطبيعية، وجدت الادارة الأمريكية نفسها مجبرة على القيام بمحاولة لتحسين سمعتها أمام الرأي العام العالمي، زاعمةً تجميد معظم العقوبات، مع العلم أنه تجميد متأخر وشكلي.
والحكومة السورية تعي تماماً المرامي والأهداف الحقيقة للقرار الأمريكي، وباتت على دراية تامة بالمناورات والألاعيب الأمريكية، وتدرك أن الحرج الكبير الذي وقعت فيه الإدارة الأمريكية أمام العالم دفعها إلى اتخاذ هذا القرار.
كما يعي السوريون أن هذا القرار الخادع لن يخفف آلامهم، ولن يبلسم جراحهم لأن الإدارة الأمريكية تواصل حرمانهم من استخدام ثرواتهم التي تسيطر عليها هي وإرهابيها في الشمال والشرق من سورية، كما أن تجارب السوريين مع الإدارات الأمريكية المتلاحقة تؤكد أن جل القرارات التي تتخذها بحقهم هي قرارات قائمة على الخداع والتضليل، لذلك سارعت الحكومة السورية الى رفضه ونزع المصداقية عنه من خلال بيانها الأخير.
وحتى لوسمح هذا الإعفاء من العقوبات بمزيد من جهود الإغاثة، فإن العقوبات الأمريكية على سورية مصممة خصيصاً لمنع عملية إعادة إعمار البلاد، الأمر الذي سيعيق عملية إعادة الإعمار بعد الزلزال، فقد قالها وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في عام 2021: ” سياسة الولايات المتحدة تعارض إعادة إعمار سورية”.
بيان المقررة الأممية حول سورية
إن التدهور المروع في الأوضاع الإنسانية والمعيشية في سورية، كنتيجة مباشرة للعقوبات القمعية أحادية الجانب التي تنتهك القوانين والمواثيق الدولية، دفعت الأمم المتحدة إلى إيفاد مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالتدابير القسرية أحادية الجانب وحقوق الإنسان، ألينا دوهان، إلى دمشق بين 30 تشرين الأول و10 تشرين الثاني 2022 لتقييم تأثير العقوبات. قدمت المقررة الخاصة بعد زيارتها إلى سورية، والتي استغرقت 12 يوماً في بيان لها معلومات مفصلة عن الآثار الكارثية للعقوبات أحادية الجانب، والتي أثرت على جميع مناحي الحياة في البلاد، حيث ذكرت دوهان أن 90 في المائة من سكان سورية يعيشون حالياً تحت خط الفقر، مع محدودية الوصول إلى الغذاء، والمياه، والكهرباء، والمأوى، ووقود الطهي، والتدفئة، والنقل، والرعاية الصحية، وحذرت من أن البلاد تواجه هجرة للعقول بسبب المصاعب الاقتصادية المتزايدة. وأضافت دوهان في بيانها: “بما أن أكثر من نصف البنية التحتية الحيوية قد تم تدميرها بالكامل أو تضررت بشدة، فقد أدى فرض عقوبات أحادية الجانب على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء والتجارة والبناء والهندسة إلى القضاء على الدخل القومي، وتقويض الجهود المبذولة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار”.
وذكرت مقررة الأمم المتحدة أن منع المدفوعات، ورفض عمليات التسليم من قبل المنتجين والبنوك الأجنبية، إلى جانب احتياطيات العملات الأجنبية المحدودة بفعل العقوبات، قد تسبب في نقص خطير في الأدوية، والمعدات الطبية المخصصة للأمراض المزمنة والنادرة، وحذرت من توقف عملية إعادة تأهيل وتطوير شبكات توزيع المياه للشرب والري بسبب عدم توفر المعدات وقطع الغيار، الأمر الذي أدى إلى تداعيات خطيرة على الصحة العامة والأمن الغذائي.
وحثت دوهان في ظل الوضع الإنساني المأساوي الحالي، والذي لا يزال يتدهور، حيث يعاني 12 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، على الرفع الفوري لجميع العقوبات الأحادية الجانب التي تضر بحقوق الإنسان بشدة، وتمنع أي جهود للتعافي المبكر، وإعادة البناء وإعادة الإعمار. وأضافت، لا توجد إشارة إلى أهداف جيدة للعقوبات أحادية الجانب تبرر انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، وأصرت على أنه على المجتمع الدولي الالتزام بالتضامن وتقديم المساعدة للشعب السوري.
هكذا يوضح تقرير مقررة الأمم المتحدة بوضوح أن تشديد العقوبات الأحادية، والقيود التجارية ولّد أزمة اقتصادية طويلة الأمد في سورية، مع ارتفاع مستوى التضخم وتراجع مستمر في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار.
الزراعة والأمن الغذائي
بسبب نقص المياه والطاقة، والقيود المالية والتجارية، انخفضت كمية المدخلات الزراعية مثل الأسمدة والبذور والمبيدات والأعلاف وقطع غيار الآلات الزراعية، حيث انخفض إنتاج المحاصيل الزراعية في سورية من 17 مليون طن سنوياً عام 2000-2011 إلى 11.9 مليون طن عام 2021، وانخفض محصول القمح من 3.1 مليون طن في عام 2019 إلى أقل من 1.7 مليون طن في عام 2022. وبينما كانت سورية تاريخياً مُصدرة للقمح، فإنها تستورده الآن، مما يزيد العبء المالي على الحكومة السورية بشكل كبير.
خدمة لمصالح الكيان الإسرائيلي
تبرر الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوباتهم على سورية كوسيلة لممارسة الضغط على الدول لفرض تغيير في سياساتها. ومع ذلك، فإن التجربة الواسعة لهذه السياسة الأمريكية في العديد من البلدان تظهر بوضوح أن العقوبات هي في الأساس أداة سياسية تُستخدم لإخضاع الحكومات من خلال تدمير شعوبها. لقد أدت العقوبات المفروضة على سورية إلى أزمة غذائية خطيرة، حيث يواجه 12 مليون سوري انعدام الأمن الغذائي، ويعاني 2.4 مليون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي. تستنزف هذه العقوبات موارد حياة الشعب السوري، والتي تعتبرها الحكومة السورية مرتبطة إلى حد كبير بصراعها مع “إسرائيل”، حيث يُنظر إلى الكيان الصهيوني على أنه المستفيد الأكبر من محاولة التدمير الممنهج لسورية.
تجدر الإشارة إلى المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالتدابير القسرية الأحادية، وحقوق الإنسان ستقدم تقريرها النهائي عن تأثير العقوبات إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أيلول 2023.
كلمة أخيرة
لا توجد سياسة ولا “حسابات” في هذا الدعم والتعاطف الكبيرين وفي هذه المبادرات الإنسانية، بل هناك إنسانية معذبة يجب إنقاذها. هذا الغرب الذي يملي قاعدة الخير والشر يجب أن يستلهم منه عندما يواجه الضيق الإنساني في سورية ولا يطبق سياسة الكيل بمكيالين حتى في انسانيته. وها هو مغترب سوري يلخص محنة السوريين بدقة: ” يراقب كل السوريين خرائط الحركة الجوية فوق بلادهم. كل السوريين رأوا الطائرات تتفادى سماءهم وتسد آذانهم عن صرخات مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء تحت الأنقاض أو في الشوارع المهجورة إلا بالصقيع والبرد والألم”.
في مساء يوم الأربعاء 8 شباط، أعلنت 13 دولة فقط عن استعدادها لمساعدة السوريين ووصل بعضها في الساعات الأول،. وها هو لبنان الشقيق الذي رغم العقوبات والكوارث التي يعاني منها، لم يتردد في أن يعلن للعالم أجمع أن موانئ ومطارات لبنان مفتوحة لكل من يرغب في استخدامها لإنقاذ الأشقاء السوريين في مواجهة تداعيات الكارثة المروعة.
سورية حضارة انسانية
لقد تأسست أولى القرى قبل 8000 عام على ضفاف نهر الفرات، ولكن أراد المتآمرون النيل منها وإغراقها في الفوضى بسبب تمسكها بمبادئها الثابتة ورفضها الاملاءات الغربية التي تسعى يائسة للتحكم بمصيرها والنيل من وحدتها وسيادتها.
لذلك قامت 30 منظمة بإشعال نيران الحرب المستعرة، تم خلالها استقدام كل إرهابيي العالم إلى الأراضي السورية مع تقديم كافة أشكال الدعم لهم في محاولة يائسة لتغيير نظام الحكم، وقد دفع السوريون ثمناً باهظاً لهذه الحرب الشرسة، حيث تفاقم انعدام الأمن الغذائي جراء الحصار والعقوبات، عدا الحديث عن الخسائر البشرية. ورغم ذلك هذه الحرب زادت قوة وصلابة الشعب السوري، وكذلك هذه الكارثة الطبيعية سوف تزيد من قوته وتعاطفه رغم كل الجراح والآلام، فهو شعب جبار وحي ومحب للحياة. شعب يستحق الحياة، لذلك من حقه الحصول على أدنى درجة من الانسانية الغربية، لأن الإنسانية في البلدان العربية تحدت “قانون قيصر”، وهبت لمساعدة الشعب السوري، فيما ترددت بعض الدول الغربية في البداية في إرسال المساعدات خوفاً من غضب سيدها الأمريكي.