مجلة البعث الأسبوعية

ثراء دبسي: لست مستعدة لمجاراة المناخات الفنية الجديدة عاصرت الكبار وأعمل بتقاليدهم ولا أتنازل ولا أساوم ولا أستسهل متشوقة للمسرح وشغفي به نقلته للإذاعة

“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس

ممثلة مسرحية بامتياز، تنتمي لجيل العمالقة في المسرح السوري الذي عاصرت ازدهاره وكانت جزءاً لا يتجزأ منه، ولكن إطلالتها المسرحية أصبحت مرهونة بالظروف التي عانى منها تدريجياً، وبما يتناسب مع مسيرتها فيه، مع إصرارها على نقل شغفها به إلى الإذاعة التي احتضنتها منذ بداياتها، فأخلصت لها كممثلة أولاً، وكمخرجة إذاعية لاحقاً، بعد أن تتلمذت على يد أساتذة كبار، أمثال مروان عبد الحميد، ومحمد صالحية، وداوود يعقوب.

 

من المسرح إلى الإذاعة التي هي اليوم بيتك الثاني.. ماذا عن بداياتك فيها؟

– كنتُ أعمل في المسرح القومي، وتزامن ذلك مع بدايات التلفزيون وبداية مرحلة جديدة في الإذاعة السورية، حيث اتجهت مجموعة من الشباب إلى القاهرة للمشاركة في دورات تدريبية على يد أهم الأساتذة في مصر التي كانت أستاذة الفنون في الوطن العربي، وحين عادوا إلى سورية أسسوا مرحلة ما بعد الاتجاه الشعبي، والتي كان رائداها حكمت محسن وتيسير السعدي، وغيرهما ممن كانوا يتناولون في برامجهم الإذاعية البيئة الشعبية، إلى أن أتى هؤلاء الشباب فأحدثوا نقلةً نوعيةً في الدراما الإذاعية، حين توجهوا إلى الطبقة المتوسطة المثقفة.. أذكر من هؤلاء الشباب، آنذاك، رفيق سبيعي، وعبد الرحمن آل رشي، ومحمد صالحية، وفاروق حيدر، ومروان عبد الحميد، وداوود يعقوب. كان العنصر النسائي في الإذاعة قليلاً جداً، ولسد النقص بحثوا بين العناصر النسائية التي كانت تعمل في المسرح، وكنت أنا بينهم، فبدأت في الإذاعة بأدوار خجولة وقصيرة لأن الشخصيات النسائية كانت قليلةً جداً في النصوص المُقدَّمة لعدم وجود ممثلات بشكل كاف، ولفتُّ نظر مروان عبد الحميد بحسن أدائي الإذاعي، فنصحني أن أستمر في التدريب المكثف، وهذا ما فعلتُه طيلة ستة أشهر اكتشفت نفسي فيها، وأتقنت أدواتي، وانطلقت بالعمل الإذاعي الحقيقي.. كان أغلب المخرجين يستعينون بي، وأصبح لديَّ نوع من الوله بعملي في الإذاعة التي ما زلت مستمرة فيها حتى الآن، دون انقطاع، وبحب شديد، وأكثر ما يسعدني أنني نجحت في عدم تكرار نفسي من خلال اجتهادي الدائم لخلق ما هو مختلف لكل شخصية عبر الصوت والأداء.

 

بدأتِ العمل في الإذاعة بكلمة ووصلتِ اليوم لمرحلة يقال فيها: إذاعة دمشق تقدم ثراء دبسي في “زنوبيا”.. كيف تحقق ذلك برأيك؟

– هذا الأمر لم يأتِ بسهولة، وإنما هو تتويج للشغف الحقيقي والاجتهاد الدائم بتقديم كل ما هو جديد، والبحث الدائم عن كل ما هو مبتكر، وقد خضت في الإذاعة كل حالات الأداء الفني، حيث عملتُ مذيعة على الهواء مباشرة ومقدمة برامج وممثلة ومخرجة، ولا زلت حتى الآن.

 

نقلتِ شغفكِ بالمسرح إلى الإذاعة وعوضتِ انقطاعكِ عنه من خلال عملك كمخرجة لبرنامج “المسرح إذا روى”.. أية خصوصية لهذا البرنامج بالنسبة لك؟

– “المسرح إذا روى” برنامج بدأ تحت اسم “آفاق مسرحية” – إخراج سميرة بلوط – وكان يعده الراحل لؤي عيادة، وأشارك أنا بالتمثيل.. بعد رحيله، بدأ يعده ويقدمه الفنان زيناتي قدسية، وكنت أشاركه في التقديم، وكان البرنامج يقوم على تقديم نصوص مسرحية مختلفة من خلال مسرحتها إذاعياً. وبعد فترة من بدايته، كان لا بد من تطويره وسد بعض الثغرات فيه، خاصة فيما يتعلق بتقديم المسرحيات ذات الفصول، والتي كانت تقدم على عدة حلقات، الأمر الذي كان يفقد التواصل ما بين الجمهور والبرنامج، خاصة وأنه برنامج أسبوعي؛ لذلك عندما أوكلت إلي مهمة إخراجه، اقترحتُ زيادة مدة البرنامج واقتراحات أخرى انطلاقاً من إدراكي أن حركات عديدة يقوم بها الممثل على خشبة المسرح بحاجة لأن تنقل للمستمع، فكان الحل الذي اقترحته إضافة شخصيات جديدة: متفرج ومتفرجة دائما الحضور للعروض المسرحية، يشرحان من خلال وجودهما شكل الديكور وبعض الحركات والتعابير الصادرة عن الممثل دون كلام، كما أضفتُ شخصية قاطع التذاكر ومدير الصالة.. وهكذا حاولتُ من خلال هذه الشخصيات نقل جو المسرح كله إلى الإذاعة، والأهم تعريف المستمع بالنصوص المسرحية السورية أولا. ووصلنا اليوم إلى الحلقة مئة، وسنبدأ بعد هذه الحلقة بنقل نصوص المسرح العربي للمستمع، ولاحقاً سيتم الانتقال إلى المسرح العالمي، مع استمرارنا بتقديم نصوص لكتّاب سوريين.. إذاً المسؤولية كبيرة، لأننا بهذا البرنامج نقوم على أرشفة المسرح السوري والعربي والعالمي، مع الإشارة إلى أننا كنا حريصين على تسليط الضوء على جميع الكتّاب السوريين، المعروفين وغير المعروفين، وعلى جميع النصوص، سواء قُدّمَت على خشبات المسارح أو لم تُقَدَّم، بغض النظر عن مستواها، ودون تحيز لأي نص أو كاتب، والتعامل مع النصوص المختارة دائماً بحب؛ وقد نوّهتُ مراراً إلى أن الهدف من ذلك هو الأرشفة وليس تقييم هذه النصوص، مع التأكيد على أن نصوص ممدوح عدوان وسعد الله ونوس كانت الركيزة الأولى لهذا البرنامج، وهنا أشير إلى جهود الفنان يوسف المقبل في إعداده للنصوص المسرحية المختارة، إلى جانب الكاتب أحمد السح.

 

ولكن ما الذي جعلكِ تتجهين للإخراج الإذاعي وأنت بدأتِ كممثلة؟

– منذ أن بدأتُ كممثلة إذاعية، كان لدي رغبة في التعرف على تفاصيل العمل الإذاعي، لذلك كنتُ أراقب عمل المخرجين إلى أن نصحني المخرج مروان عبد الحميد، وهو عرابي وأستاذي، أن أتجه إلى الإخراج.. عندها قلتُ له أنني لا أريد أن أكون مخرجة عادية، فقال لي: من قال أنك ستصبحين مخرجة عادية؟ فبادرته بالسؤال: إن أخرجتُ عملاً فهل تمثل معي؟ فقال لي بالتأكيد!! وهذا ما شجعني على خطوتي الأولى، وأحزنني جداً أنه، وفي أول تجربة لي على صعيد الإخراج في الإذاعة، كان قد رحل، ولا أنكر أن الخوف كان يتملكني لأن إدارة الممثل مهمة ليست سهلة، خاصة وأنني ممثلة قبل أن أكون مخرجة، لكنني اجتزتُ هذه التجربة بنجاح، وتتالت بعد ذلك تجاربي في مجال الإخراج، وحصل بعضها على جوائز في مهرجانات عربية كمهرجان القاهرة.

 

أية صفات تتمتعين بها كمخرجة في “المسرح إذا روى” وسواه؟ وكيف تكبحين جماح الممثلة فيك؟

– كوني ممثلة مسرح ساعدني كثيراً كمخرجة في تهيئة ظروف عمل مريحة للممثلين، بحيث أُقدم نصاً جاهزاً ليُقَدِّم الممثل شخصيته دون الانشغال بأية تفاصيل أُخرى. وأعترف أن اكتفائي بالإخراج، بعيداً عن إغراءات التمثيل الذي أعشقه، يتم بصعوبة، لذلك نادراً ما أقوم بتجسيد شخصية مسرحية في هذا البرنامج رغبة مني بإعطاء فرصة للممثلين الجدد الذين أحب التعامل معهم وأحترم جهودهم.

 

تنتمين لجيل كان يعمل ضمن تقاليد صعبة، فأي فرق تجدينه اليوم بين ذاك الجيل وبين الجيل الحالي؟

– أنتمي لجيل كانت الهواية عنده غالبة على الاحتراف، وكان لديهم شغف كبير للعمل دون أي اعتبارات أخرى، مع تقديس العمل ومواعيده والإخلاص لكل ما يقومون به.. لقد عاصرت أسماء مهمة في المسرح والإذاعة، وما زلتُ أقتدي بمدرسة مروان عبد الحميد في الإخراج الإذاعي، فتعلمتُ منه الإتقان والالتزام والجدية في العمل، وما زلتُ مستمرة في التمسك بهذا النهج، ولكن دون أن أنسى أهمية أن أُطوّر هذه المدرسة العريقة في الإذاعة، والمتتبع لها يدرك أهمية تلك الأعمال التي كانت تتمتع بالعمق لأنها مشغولة بدقة وبإيمان وبإخلاص من قِبَل مجموعة أسماء موهوبة، وكانت تتمتع بثقافة عالية كأغلب جيل الأمس.. مأخذي على الجيل الحالي أنه متسرع ولا مبالٍ، غايته الشهرة والنجومية، يدخل إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، ولا يقف على خشبة المسرح، فعينه دائماً على التلفزيون سعياً للشهرة، ولا أنكر وجود مبدعين بينهم، وأنا أتعامل معهم كمخرجة وكممثلة تتّبع تقاليد الجيل الماضي على صعيد الالتزام والجدية والإتقان، أُنجِز ما يجب أن أنجزه وفقاً لهذه التقاليد وأُهيئ لهم جواً مريحاً للعمل وأُسعَد كثيراً بتجاوبهم والتزامهم معي.

 

وما الفرق بين إذاعة الأمس وإذاعة اليوم.. برأيك؟

– لا أنكر أننا نفتقد اليوم لأمثال جيل الأمس في الإذاعة التي قَدَّمتْ الروائع، ومع هذا لا بد من التأكيد على أننا اليوم أفضل حالاً من السنوات الست التي مضت، بعد أن نهضت الإذاعة بدراماها وبرامجها نتيجة التوجه نحو أشخاص يعشقون الإذاعة ويكتبون لها، وهذا أمر ضروري لأن النص في الدراما الإذاعية هو القاعدة الأساسية، مع العلم أن الإذاعة في فترة من الفترات كانت تعاني من نقص النصوص الإذاعية نتيجة عدم وجود كتّاب يغريهم العمل في الإذاعة. وقد تغير حال الإذاعة ودراماها بعد ورشة “الدراما الإذاعية.. سبعون عاماً من العطاء”، والتي أقيمت، عام 2019، بجهود جبارة بذلها مدير دائرة التمثيليات بالإذاعة باسل يوسف، والتي نجحت في خلق تقارب بين الكتّاب والمخرجين والمسؤولين في الإذاعة، حيث استقطبت الإذاعة بعدها كتّاباً جدد يتم الاعتماد عليهم حالياً إلى جانب الأسماء التي كانت موجودة.. أنا مؤمنة بالشباب ومتعاونة معهم، ويعمل عدد كبير منهم معي، لذلك أتفاءل بأن الأمور ستتطور أكثر في الإذاعة، خاصة أن حلت مشكلة الأجور المادية.

 

بالعودة للحديث عن المسرح.. ما هي الأعمال المسرحية التي شكّلت لكِ نقلات نوعية في مسيرتك؟

– أعمال كثيرة أذكر منها: “دون كيشوت” مع المخرج محمود خضور الذي عملتُ معه عدة أعمال مثل “زيارة الملكة”، وكذلك مجموعة الأعمال التي قدّمتُها مع المخرج علي عقلة عرسان كـ “الأشجار تموت واقفة”، و”رجل برجل” مع فايز قزق.. هذه الأعمال شكّلت نقلات نوعية ليس في مسيرتي فقط وإنما في مسيرة المسرح السوري بشكل عام، والمسرح القومي بشكل خاص.. لقد عملتُ مع كل المخرجين الذين اشتغلوا في المسرح القومي كحسن عويتي، وشريف شاكر، وفواز الساجر، ومحمود خضور، ونهاد قلعي، وكان لكل مخرج طريقته وأسلوبه، وهذا ما أغنى مسيرتي.

 

ما الذي ميز علي عقلة عرسان في عمله كمخرج؟

– عندما بدأتُ العمل مع المخرج علي عقلة عرسان كنتُ في بداياتي، وقد حمّلني ذلك مسؤولية كبيرة، فعلي عقلة عرسان مسرحي ومفكر كبير، وقد أنجزتُ معه “الشيخ والطريق”، و”احتفال ليلي خاص لدريسدن”، و”الأقنعة”، و”الأشجار تموت واقفة”، وأهم ما كان يميز عرسان هو اهتمامه بأدق التفاصيل وتركيزه على إحساس الممثل، وكان لا يقبل إلا بالكثير، ولا يفرض على الممثل ما يجب أن يقدمه، بل كان ينتظر من الممثل أن يُقَدِّم ما لديه أولاً.

 

كيف تفسرين ابتعادك عن الدراما التليفزيونية؟

– السبب الأول هو انشغالي بالإذاعة، وإخلاصي لهذا المكان الذي أنتمي إليه قلباً وعقلاً، إلى جانب أنه لا يُعرض علي ما هو مناسب؛ وأعترف أيضاً أنني بعيدة لأنني أفتقد إلى الحاضنة التي تجعلني أتحمس للمشاركة في عمل من الأعمال.. بين الأمس واليوم، اختلفت أمور كثيرة، ولست مستعدة لمجاراة المناخات الفنية الجديدة، فلا أستطيع اليوم أن أجاري التسرع في كل شيء، فأنا فنانة لا أتنازل ولا أساوم ولا أستسهل، لأنني مؤمنة أن البناء صعب في مسيرة كل فنان، لكن السقوط والانحدار يحدث بمنتهى السهولة؛ وقد اعتذرت عن أعمال في التلفزيون حين تضاربت مع عملي في الإذاعة، ولم أندم يوماً على فعل ذلك، لأنني لم أجد نفسي في أي شخصية منها، ولا أقول هذا الكلام انتقاصاً من قيمة ما يُقَدَّم، ولكنني بالفعل لا أجد ما يغريني.

 

هل يمكن أن نراك قريباً على خشبة المسرح؟

– متشوقة جداً للوقوف على خشبة المسرح كممثلة، ولكن العودة يجب أن تكون محسوبة جداً.. لا أريد أن أُقَدِّم عملاً لمجرد رغبتي في الوقوف على خشبة المسرح، وأرى أن المونودراما اليوم هي الأنسب لي، ليس بهدف تفجير واستعراض طاقاتي، ولكن لأن إنجاز عمل مسرحي يضم عدداً من الممثلين بات أمراً صعباً.