“كلّهم بخير إلا أنا” تغلب مرثيات الشّعراء وتدغدغ نزعاتهم الإنسانية
نجوى صليبه
“كلّهم بخير إلّا أنا”، ليست عنوان قصيدةٍ نظمها شاعر يشكو لوعة فراق الحبيبة وألمه، كما أنّها ليست عنوان رواية فلسفيةٍ أو صوفيةٍ تبحر في الرّوح البشرية وتخبّطاتها، إنّها أوّل ما نطق به أحد سكّان شاب سوري عندما أدرك أنّ أفراد عائلته جميعاً أصبحوا أجساداً باردةً وقرابين طيّبة للزّلزال الذي ضرب المنطقة، مخلّفاً آلاف الضّحايا والمصابين.
“كلّهم بخير إلّا أنا”.. عبارة اختصرت عذابات الفقد وآلام الحزن كلّها، بل إنّ البعض وجدها أفضل ما قيل في رثاء الأحبّة، يقول القاصّ عبد الله النّفاخ: “أخشى أنّ هذه العبارة التي قالها النّاجي الوحيد من بين أفراد أسرته، غالبت أبيات الرّثاء ونصوصه التي عرفناها كلّها، فغلبتها”.. لقد كان هذا الرّثاء ملهماً أو محرّكاً للنّزعة الإنسانية عند كثير من الشّعراء السّوريين، لدرجة أنّ بعضهم ضمّنها في القصيدة ذاتها، يقول الشّاعر مزاحم الكبع:
غضبُ الطّبيعةِ إذ صباحاً أمَّنا
وبقتلِ آلافِ الأناسِ تفنَّنا
ذا والدٌ فقدَ الأحبَّةَ كلَّهمْ
فاختارَ دربَ الصَّبرِ درباً أهونا
ونعاهمُ نعيَ المفارقِ قائلاً
صاروا “بخيرٍ كلُّهمْ .. إلَّا أنا”.
ومجاراةً لأبيات الكبع هذه، نظم الشّاعر أسامة الحمّود قصيدته “إلّا أنا”، ومنها نقتبس”
صـــارُوا “بخيــــرٍ كلُّهُــــــم إلَّا أنا”
قلِّي بِرَبِّــــكَ مِثلُــــهُ مـــاذا جَنَى؟
ناءَ القَضـــاءُ على العِبـــادِ بكَلكَــلٍ
فأناخَ ظَــــهراً للفَجِيعَــــةِ وانحَنى
فقَدَ الأحِبَّــــةَ والبَنِــــينَ وصُــحبَةً
فبِــأيِّ ثَـــوبٍ قد تُغــــــازِلهُ الدُّنـــا
وبَكــى فأبكَـى كُلَّ مـن أصغَـــى لهُ
وبِحُزنِــــهِ فَطَــــرَ القُلوبَ وأحــزَنا
إلى قوله:
يا رَبِّ لطفُــكَ بالعِبــــــادِ رجــــاؤُنا
قد آنَ يَبـــزُغُ في مَرابِعِنــا السَّــــنا
أو أنَّ آخِــــرَنا سَيصـدَحُ في الوَرَى:
صـــــارُوا (بِخَيـــرٍ كُلُّهُـــم إلَّا أنـــا).
ومثل هذا الرّجل الثّاكل، نشبت طفلة حلبية مخالبها في قلب الشّاعر العراقي عادل الصّويري، ليقول “إنّها نظرة أنبتت للسّماوات شَعراً، لتشيب”، ثمّ ينظم “موؤودة الحجر” والتي نقتبس منها:
ما في الكمنجةِ هذا الصُبْحَ أوتارُ
وباكتئابٍ أُصِيبَتْ فيهِ أشجارُ
تروي لنا طفلةُ الزّلزالِ رجفتَها خلفَ الشتاءاتِ
حينَ الدفءُ أحجارُ
خيالُها
بخيامِ البردِ ممتلئٌ
الريحُ تكتبُ
والأطفالُ أحبارُ::
أبي تلاشى صدىً
اللهُ صارَ أبي
لكنَّ أُمّي اخْتَفَتْ
والذُعْرُ إعصارُ
جدار مكتوب عليه “أحبّك” وبعض “قلوب الزّينة الحمراء” هو ما تبقّى من بيت كان يحتفل أو على وشك الاحتفال بمناسبة خاصّة كعيد الزّواج أو عيد الحبّ الذي كان على الأبواب ثمّ غاب مع الغائبين، مشهد آخر شقّ جرحاً دامياً بلونٍ تلك القلوب وأباح للشّعر أن يتطفّل على ما لم يعد مفاجأة أو حفلاً خاصّاً، تقول الشّاعرة هناء داوودي:
خلف الجدار
حكايات مملوءة بالرّضا
ضحكات يشوبها الحذر
أحلام تمضي بإيعاز الأمل
صورة على حائط أسمر
تستعيد لحظات دفء كان
زوايا تشهد حلو اللقاء
في هذه المدن المنكوبة، كلّ ألم وكلّ مشهد هو محرّض لولادة قصيدة حزينة أو رواية كئيبة أو قصّة قصيرة جدّاً تلتقط تفاصيل التّفاصيل، يقول القاصّ عبد الوهاب محمد: “ها هو.. يقرأ ورقة نعوة عائلته.. فرداً.. فرداً.. كمعلّم يتفقّد صفّه، وكلّما نادى اسماً، رفع يده وصاح: حاضر”!.
أمّا القاصّ خضر الماغوط، فكتب تحت عنوان “الرّكام” قصّة “أبو تيسير” الذي استيقظ عند السّاعة الرّابعة صباحاً وذهب إلى الفرن وأخذ مخصّصاته من الخبز، وسار باتّجاه بيته، ثمّ تهتزّ الأرض به وبما حوله، وتتدمّر المباني، فيغيب عن الوعي قبل أن يعرف أن زلزالاً ضرب المنطقة.. ينهض أبو تيسير ويجمع أرغفة الخبز التي سقطت من يده، ويتابع سيره بين ركام الأبنية التي أغلقت الشّارع، واختلطت بركام بيته.. وعندما يتأكد أبو تيسير أن لا حياة في بيته، يتوجّه إلى بضعة كلاب موجودة في المكان، ويرمي لها أرغفة الخبز، وهو يقول: هذا رغيف ابني ترحّموا عليه، وهذا رغيف ابنتي ترحموا عليها، وهذه أرغفة زوجتي العجوز وحفيدتي وأم حفيدتي ترحّموا عليهم، وهذا رغيفي أنا، ترحموا عليّ.. أنا لم أعد حيّاً.
الفرح والحزن مشاعر لا يمكن أن نعيشها بمفردنا، لذلك عندما نعيشها نتمنّى أن يشاركنا فيها أحد، فيخطر على بالنا صديق قريب أو حبيب غائب أو أسرةٌ بعيدة، تقول الشّاعرة أنيسة عبّود التي نجت من زلزال الطّبيعة في جبلة وغرقت في زلزال الشّوق:
أحتاجك
أحتاجك الآن
لتطوي معي شرشف الزّلزال
ونصفّ سويّة الأشجار
التي تشلّعت في القلب
وغطّت رأسها بالجراح
إلى قولها:
أحتاجك
أنا الوحيدة
مع النّوافذ الهاربة من الجدران
الوحيدة مع العصف
المغبّش بالأرواح
الرّدهة تمشي مسرعةً بي
وقلبي يتكسّر في يدي
وأنت البعيد في آخر الأحزان
لكن، وكما كلّ أزمة طبيعية أو بشرية نعيشها ونعاني انعكاساتها، نكابر على الجرح وننهض ونسير إلى أقدارنا، يقول الشّاعر محمد حسن عيسى ابن مدينة حماة التي تضرّرت أيضاً من الزّلزال:
هذا هو السّوري فينيقُ المدى
لا النّار تفنيهِ ولا الزّلزالُ
مرّت عليه المعجزات جميعها
ما عاد يعجبُ لو تزولُ جبال
كفٌّ على كفٍّ وتولدُ شعلةٌ
في ذا الظّلامِ وتكبرُ الأجيالُ
الخير كلّ الخير في يدِ مُنقذٍ
لم تثنهِ الأكوامُ والأوحالُ
إلى قوله:
تحيا بلادي حرّةً عربيّة
يحيا بنوها عيشُهم إقبالُ
رحم الإلهُ الرّاحلين وصبَّرَ الـ
باقين بعدك أيّها الزّلزالُ.