الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

غسان كنفاني..!

حسن حميد

ها أنذا، أعودُ من أيام ثقافية ثلاثة عشتها في العاصمة الأردنية، عمان، دار كلّ ما فيها حول أدب غسان كنفاني وحياته ورؤيته من جهة، وحول أهميةِ السردية الفلسطينية التي تشكّل النقيض الأتمّ للسردية الإسرائيلية المعتمدة على تاريخ هشّ متداعٍ، ورؤى ضبابيةٍ لا تصير ضوءاً، وأحلامٍ تصطدم يومياً بوقائع وأحداث وحادثات تكذّبها وتكشف زيفها من جهة ثانية.

أعودُ من مؤتمر غسان كنفاني الروائي ممتلئاً بالغنى الثقافي، والروح العاطفية، والرضا الإبداعي، ذلك لأنّ 42 كاتباً مبدعاً، وناقداً أدبياً أحاطوا بالفترة التاريخية التي عاشها غسان كنفاني فأبدوا ما فيها من ظروف وصروف من جهة، مثلما أحاطوا، من جهة ثانية، بالأمل الفلسطيني الذي أدهش العالم بقومته التي تشبه قومة الطبيعة بعد خريف أصفرّ فيه كلّ شيء، حين نادى الفلسطينيون بالوضوح الجلي: بلادي، بلادي!

في المؤتمر الذي مثّله أدباء وكتّاب ونقّاد من المغرب العربي إلى البحرين، ومن سورية إلى السودان، عشنا في تآخٍ حميم متجدّد مع غسان كنفاني الذي ماشينا طفولته في حيفا ويافا، ووقفنا عند الصور التي التقطتها عيناه للبيوت والشوارع والساحات والحدائق والمدارس والمحال التجارية في حيفا وعكا، وعن حياة اللجوء التي عاشها في البلاد السورية العزيزة، وعن السنوات القليلة التي عاشها في الكويت، ثم حياته المذهلة ثقافياً وإبداعياً التي عاشها في لبنان، حيث كان نجماً من نجوم الثقافة والآداب والفنون في المشهد الثقافي اللبناني، على الرغم من اتساعه، واكتظاظه بالأسماء الثقافية الشهيرة، ثم وقفنا بالخشوع الجليل أمام لحظة اغتياله الصّباحية، وتناثر أعضاء جسده، وجسد ابنة أخته لميس (17 عاماً)، في الأعالي، لتعرّش بحزنها العميم علواً مثل الدوالي!

لم يبقَ شيء يخصّ حياة غسان كنفاني وأدبه إلا وأتى عليه المشاركون في هذا المؤتمر النوعي الذي أعدّت له، وأشرفت على كلّ تفصيل فيه، وزارة الثقافة الفلسطينية، وقد حملت أوراقُ المؤتمر الكثيرَ من الآراء المدهشة، لأنّ رؤى الكتّاب والنقّاد العرب تقابلت مثل المرايا لتبدي لنا صورة إبداع غسان كنفاني كيف تجسّدت في المشاهد الثقافية العربية، وكيف بدت وجوه إبداعه في جميع أجناس الأدب، وما لعبته موهبته الكبيرة، وثقافته الراجحة، وهي تكتب جروح الوجع الفلسطيني، وحياة المخيمات وما فيها من غُصص، وحال النهوض الوطني الفلسطيني الذي شكّل أملاً جديداً للروح العربية الرافضة للاستسلام والخضوع، وما أسهمت به الصحافةُ والترجمةُ لتظهير فتوة العقل الفلسطيني وخصوبته؛ كلّ هذا ترادف مثل أطياف اللون لتبدو الحياة القصيرة التي عاشها غسان كنفاني، ولتبدو قوة موهبته الإبداعية التي أنجزت مدونة أدبية غاية في الأهمية، وغاية في الاشتقاق، وغاية في التعبير والرؤيا.

ولعلّ المدهش في هذا المؤتمر، هو التلاقي بين وجهات النظر تجاه حياة غسان كنفاني وأدبه، فالناقدة البحرينية تقول ما يقوله الناقد السوداني، والناقد المغترب في أوروبا يقول ما قاله الناقد الفلسطيني، والروائي الأردني يبوح بما باح به الروائي السوري من استفادات أخذها إلى صدره غنىً واستلالاً من تجربة غسان كنفاني الذي كان أول من التفت إلى أدب المقاومة داخل الوطن الفلسطيني، فعرّف به، وأبدى سماته، وأول من استخدم تيار الوعي ليكون علامة روائية جديدة في السّرد العربي، وأول من قال إنّ الأدب هو الصورة الأوفى التي تتحدث عن نكبة الفلسطينيين، كي تكون السردية الفلسطينية هي المرآة الحاملة لكلّ طيوف الوجع الفلسطيني وأنّاته، ولكلّ التعب والرهق اللذين عاشهما الفلسطيني طوال 100 سنة أو أكثر.

بدا مؤتمر غسان كنفاني الروائي الأول، بهذا المستوى الثقافي العالي، وبهذه الأسماء الكبيرة، حالاً ثقافيةً ضافية بغناها ورؤاها متعدّدة في مراياها الجمالية، وخصبة في قولاتها التي لم تترك شيئاً في كتابات غسان كنفاني، ولا في حياته، تطاله الغفلةُ والنسيان!

أجل، عشنا أياماً مع غسان كنفاني فعرفناه من الولادة إلى الاستشهاد، وعرفناه قاصاً وروائياً وصحفياً وناقداً، وسياسياً، وفناناً تشكيلياً، وصاحب رؤى لن تعرف النسيان أو التقادم أبداً، لأنّ أحلام الشعوب ذهبية دائماً، فهي مثل الذهب العتيق، كلّما مرّت به الأيام، زاد توهّجاً.. وغنىً!.

Hasanhamid55@yahoo.com