الصراع حول سقف الديون وسيطرة الدولار
ريا خوري
لم يتوقف الجمهوريون في الولايات المتحدة الأمريكية عن التهديد بوقف زيادات سقف الديون ما لم يتمكنوا من الحصول على ضمانات حقيقية خاصة بالتخفيضات غير المحدّدة في سياسة الإنفاق العامة المتبعة. إنّ مجرد التهديد بشكل عملي بدفع الولايات المتحدة إلى التخلف عن سداد الديون له تأثير سلبي للغاية في الولايات المتحدة، وهنا ينشأ التساؤل حول ماذا سيكون لو كان هذا التخلف حقيقياً وواقعياً؟ .
الواضح أن الجمهوريين يخاطرون بما عقدوا العزم عليه، وهم الذين استعادوا الهيمنة شبه الكاملة على مجلس النواب في الكونغرس الأمريكي في شهر تشرين الثاني 2022، بدفع حكومة الولايات المتحدة إلى التخلف عن سداد الديون المترتبة عليها.
الجدير بالذكر أنّ شبح سقف الديون أصبح من الطقوس التي تمّ الاعتياد عليها في الإدارات الأمريكية المتعاقبة بين الجمهوريين والديمقراطيين، فقد حدث ذلك في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، كما جرت مرة أخرى في عهد إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2011، ومرة ثالثة حدثت في عام 2021 في أثناء حكم الرئيس دونالد ترامب.
إنّ حالة التخلف عن سداد الدين القومي تتبعه استحقاقات وعواقب سيئة على أرض الواقع، وحتى مجرد التهديد بدفع الولايات المتحدة إلى التخلف عن سداد الديون له تأثير سلبي على اقتصاد الولايات المتحدة، فقد حدث في شهر آب 2021، ما يشبه ذلك حين أدى مجرد احتمال التخلف عن سداد الديون إلى خفض كبير وغير مسبوق للتصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة، وهذا كان له آثار خطيرة أضرّ بالهيبة المالية للولايات المتحدة، وعدد كبير جداً من الأشخاص والكيانات التابعة، فكيف لو كان التخلف عن سداد الديون حقيقياً؟ لأن بذلك، سيكون الضرر أكبر بكثير من المتوقع.
يؤكّد العديد من الخبراء الاقتصاديين في الولايات المتحدة أنّه من المحتمل أن يكون معظم الأمريكيين غير مدركين بعد بشكلٍ جيد للقوة الاقتصادية والسياسية والمالية المصاحبة لكون الدولار الأمريكي هو الأقوى عالمياً حتى الآن، ومن باب تفسير الأمر وتوضيحه، تتمّ في الوقت الحالي أكثر من نصف التبادلات التجارية العالمية من ذهب ونفط وسيارات وتكنولوجيا متطورة وغيرها بالدولار الأمريكي، في حين يمثل اليورو نحو ثلاثين بالمائة، وبقية العملات تمثِّل نحو عشرين بالمائة.
ونتيجة لهذه السيطرة الكبيرة، فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها سداد ديونها الخارجية بعملتها الخاصة الدولار، وهذا الأمر يمنح كلاً من الحكومة الأمريكية والشركات الكبيرة والكارتيلات ومجمعات الصناعات الحربية الأمريكية مساحة هائلة جداً في التجارة والتمويل الدوليين.
الجديرُ بالذكر أنّ الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تطبع الأموال اللازمة لسداد الديون مهما كان حجم الديون المترتبة عليها للمستثمرين الأجانب، على الرغم من أنه ولأسباب اقتصادية وتجارية ومالية، قد لا يكون من الحكمة ولا المنطق المالي القيام بذلك. في المقابل، يتعيّن على الدول الأخرى شراء الدولار الأمريكي أو اليورو الأوروبي للوفاء بالتزاماتها الخارجية، وما يترتب عليها من سداد لديونها، وهناك طريقتان وحيدتان للقيام بذلك، الطريقة الأولى إما أن تزيد هذه الدول حجم صادراتها التجارية إلى الخارج على حساب الواردات، والطريقة الثانية من خلال اقتراضها المزيد من الدولارات التي تطبعها المطابع الأمريكية دون توقف، أو اليورو الأوروبي من السوق الدولية. وبالتالي تظل الولايات المتحدة متحرّرة من مثل هذه القيود وتلك القوانين الاقتصادية والمالية العالمية، ويمكن أن تتجاوز أي عجز تجاري مهما كان كبيراً لعقود من دون العواقب نفسها.
أما بالنسبة للشركات الأمريكية والكارتيلات الضخمة ومجمعات الصناعات الحربية، فإن هيمنة الدولار تعني أنه بإمكانها الشراء والبيع بعملتها الخاصة، وعدم الخضوع لمخاطر سعر الصرف من تدنيه أو ارتفاعه مثل منافسيها الأجانب، وهذا يمنحها قوة كبيرة وميزة تنافسية هائلة لا تستطيع دول أخرى أن تجاريها ما عدا الصين الشعبية، وجمهورية روسيا الاتحادية، فمخاطر سعر الصرف بجميع مؤشراته تشير إلى كيفية تأثير التغيرات والتبدلات في القيمة النسبية للعملات في ربحية الشركة. ولأن معظم التجارة الخارجية للولايات المتحدة مقومة بالدولار، فإنه لا بدّ من عبور هذه التجارة من خلال البنك المركزي الأمريكي في مرحلة ما من مراحل انتقاله أو عبوره إلى بنوك أخرى، وهو ما يمثل إحدى الطرق المهمّة جداً التي تزيد بها الولايات المتحدة سطوتها وقوتها السياسية والاقتصادية والتجارية والمالية، وخاصة إذا ما أرادت فرض عقوبات اقتصادية أو سياسية أو تجارية أو مالية على كيانات أو حكومات تعتبرها غير صديقة.
لقد مارست الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية على العديد من دول العالم، متذكرين في هذا السياق ما فرضته الولايات المتحدة من عقوبات اقتصادية جائرة ضد إيران والشركات غير الأمريكية التي تتعامل معها، كان ذلك في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، امتثلت بشأنها معظم اقتصادات العالم لحاجتها إلى الدولار الأمريكي، والأمر نفسه جرى في عهد الرئيس الحالي جو بايدن ضد روسيا في محاولة من الولايات المتحدة تقييد وصول روسيا إلى الدولار، لكن الطريقة الذكية التي اتبعتها روسيا كانت بفرض التبادل التجاري معها بالروبل وتحديداً ثمناً للغاز والنفط، لأنه لولا الحنكة الروسية وما تتمتع به من إمكانيات اقتصادية هائلة لكانت قد دفعت البلاد إلى حافة ركود اقتصادي موسع، وهذا ما تابعه ويعرفه كبار المحللين السياسيين والاقتصاديين.
من هنا لا يمكن لأي بلد آخر اليوم أن يفرض العقوبات والقيود من جانب واحد، هذا المستوى من الألم الاقتصادي القاسي على بلد آخر مثلما تفعل الولايات المتحدة، وكل ما يحتاج إليه أي زعيم أمريكي حالياً هو اتخاذ قرار بذلك.
هذا الموضوع المهمّ يقودنا إلى تسليط الضوء على العلاقات الصينية- الأمريكية لنجد أن إحدى نتائج انهيار الدولار الأمريكي هي تعزيز مكانة أكبر منافس للولايات المتحدة عالمياً، وهي جمهورية الصين. وإذا ما حلّ اليورو الأوروبي محل الدولار الأمريكي كوحدة الحساب الرئيسية في العالم أجمع، فإنه من المؤكّد أنّ اليوان الصيني سينتقل إلى المركز الثاني في العالم ليصبح عملة دولية مهمة، وستجبر دول العالم التداول به، وهذا سيؤدي بالتأكيد إلى تعزيز مكانة الصين الشعبية الخارجية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، خاصةً وأنها تعمل اليوم بشكل عملي مع دول أخرى، مثل روسيا والبرازيل والهند، لقبول اليوان الصيني كوحدة حساب مالية.
وبعيداً عن السطوة والقوة وحجم التأثير في الدولار والنفوذ الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة، سيضرّ التخلف عن سداد الديون بعشرات الملايين من المواطنين الأمريكيين وآلاف الشركات المنتشرة في الولايات المتحدة والتي لها فروع في العالم التي تعتمد على الدعم الحكومي بشكلٍ مباشر، ومن المرجح أن يغرق الاقتصاد الأمريكي في ركود غير مسبوق، أو ما هو أسوأ من ذلك بكثير.
في حقيقة الأمر، من الصعب جداً حساب حجم الضرر والخراب الاقتصادي الناجم عن التخلف عن سداد الديون في الولايات المتحدة مقدماً لأنّه لم يحدث ذلك من قبل ولم تعرفه الولايات المتحدة عبر مسيرتها الاقتصادية، لكن هناك شيء واحد مؤكد، وهو إذا ما استمر الجمهوريون برفضهم التخلف عن سداد الديون، فإنّ الولايات المتحدة ستعاني بشكل كبير وغير مسبوق!.