حكايات الوجع السوري
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
طلب مني أحد الصحفيين المشاركة في تحقيق صحفي عن دور الأدب في رصد الكوارث الطبيعية على خلفية الزلازل التي ضربت سورية، والتي لازلنا نعاني مخاوفها ونعيش هواجسها كل يوم.
لاأخفيكم طلبه هذا وضعني في حيرة من أمري وعدت بذاكرتي إلى التاريخ أستحضر أدباً تناول الكوارث الطبيعية، واستطاع أن يقول الكلمة التي تنصف هذه الكوارث وضحاياها ويعطيها حقها، ليس في سورية فقط بل على امتداد العالم، حيث مايمكن أن يكتب يلعب الخيال فيه دوراً كبيراً، إذ كيف لكاتب أن يصور الإحساس الذي عاشه الضحايا لحظة حصول الفاجعة، وكيف له أن يكتب عن أب وأم احتضنا أطفالهما ليلاً وناموا حالمين بصباح يكون أكثر إشراقاً وحباً، لكن الكارثة غدرت بهم ودفنت أحلامهم تحت الأنقاض، وكيف لكاتب مهما تفاعل إحساسه مع الكارثة أن يرتقي بكتابته عن إحساس طفلة فقدت أهلها وظلت وحيدة في هذه الحياة تتلاطمها الآلام وذكريات الوجع، وكيف له أن يدوّن همسات زوجان لبعضهما في لحظة عاند النوم عيونهما ورغبا بالسهر فعاشا الكارثة ووجدوهما تحت الأنقاض متعانقين، وحالات كثيرة تقض الروح ذهبت في هذه الفاجعة.
لا يخفى على أحد أن الأدب كان على مر العصور مرآة تعكس الحياة الروحية والفكرية للإنسان، حاضناً لأسئلته العميقة حول الذات والعالم والمصير. أما عن المأساة التي نمر بها حالياً، فالحكم ما زال مبكراً، وإن كان من الصعب مثلاً أن يبدأ روائي في كتابة رواية في ظل هذه الأجواء الضبابية والشائكة، وربما أن الشعراء يمكنهم أن يعبروا بقصائدهم عن هذه الحالات وتأثرهم بالكارثة فيهربون إلى الشعر يستحضرون أسباباً لها عبر قصائدهم، ولعل أجمل ماقيل عن الكارثة مادوّنته الأديبة أنيسة عبود على صفحتها تصف حالة الناس في مواجهة هذه العاصفة المفجعة إذ كتبت:
“الذين شربوا الشاي مساء/وطوحوا أحلامهم تحت الوسائد/وناقشوا أخبار الطقس
وأسعار الأفراح/استيقظوا ولم يشربوا قهوتهم/كانوا منهمكين في البحث عن قبورهم
تحت الركام”.
وكانت صورة الطفلة التي تحتضن أخيها تحت الأنقاض وعيونها تتحدى الموت وتحكي ألف حكاية وحكاية، تلك الطفلة أثبتت أنها ابنة سورية التي يمتد تاريخها لآلاف السنين، وقد تداولت صفحات الفيسبوك هذه الصورة مرفقة بتعليقات متعددة لكن ما استوحاه الشاعر ناجي درويش من نظرة عينيها يعبّر أصدق تعبير عن حالتها وحالة أطفال سوريون كثر تحدوا الزلزال وتمسكوا بالحياة مصممين على النهوض من هذه الفاجعة أقوياء إذ يقول على لسان تلك الطفلة:
“عرفتوني أنا سورية.. صح وجهي مغبّر شوي بس مو مشكل بمسحو بس أطلع من تحت الردم اللي وجعلي ضهري شوي بس ما قدر يكسرو.. وصح شعراتي منكوشين وتيابي مغبّرين وأنتو متعودين عليي أنيقة، ويمكن هلق ما عندي بالبيت شي ضيفكم ياه لأنو متل مو شايفين راح البيت لكن جاي الأيام وبرجع متل ما بيعرفني العالم عتبة البيت إلي وصدرو للعالم اللي بتعرف إنو صدري وطنها التاني..
ويقرأ الشاعر إصرار تلك الطفلة على الحياة ونظرتها للمستقبل الذي تراه يتجسد بأخيها الذي تحتضنه فيضيف درويش:
هاد اللي حاطة أيدي على راسو لأحميه منكم هوي المستقبل.. شوفو عيوني وعيونو شو فيهم أمل متل عادتنا من 12 ألف سنة.. وشوفو ابتسامتنا شو فيها إيمان بالإنسان فقط بالإنسان”.
ولعل ماكتبه الشاعر هاني نديم يؤكد على عظمة الإنسان السوري وتعاضده في المحن فبعد اثنتي عشرة سنة حرب فرقت الأخ عن أخيه، جاءت هذه الكارثة لتوحد السوريين الذين تنادوا من كل المناطق السورية لنجدة أخوتهم المنكوبين فيخاطبهم نديم بالقول:
“صباح الخير أيها السوري العظيم، السوري الطيّب الذي تفجّر همّة وشهامةً في هذه المأساة.. كل قول هو قزمٌ أمام هؤلاء الشباب والشابات الذين يعملون على الأرض والله.. لا شيء سوى الصمت.. لا شيء سوى هذا الفخر المشوب بالأسى وهو يحوم في الجوف كباشقٍ فوق الديار”.
وبعيداً عن كل ما يمكن أن يكتبه الشعراء عن هذه الفاجعة وماستخطه سرديات الأدب لاحقاً يبقى لكل من قضى في هذه الكارثة ولكل من نجا منها خصوصيته التي لايستطيع أحد الحديث عنها لأنها تعنيه وحده، وربما الأدباء يستطيعون أن يحرضوا خيالهم ليستنبطوا من مصائر هؤلاء الضحايا والمنكوبين سردياتهم التي توثق لهذه الكارثة، ومع ذلك لنا في العبارة التي دوّنها الصديق سامر محمد إسماعيل على صفحته خير مثال على قوة الإنسان السوري في قيامته من محنته والنهوض من تحت الركام ليبدأ من جديد إذ كتب:
“على الرغم من كل ما حدث وما سيحدث.. بوجودنا أم بعدمه، سوف تقوم هذه البلاد، وتخلع عنها ثوب الحداد الطويل.. هذا وعد الحياة.